المقالات

البرهان الجنرال يحرك أحجاره على رقعة السودان : ملامح جديدة ومزالق محتملة

على ضفاف النيل، حيث تتلاطم أمواج السياسة مع هدير التاريخ، ترسم الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 ملامح جديدة للسودان، مغيرةً قواعد اللعبة بصورة جذرية. فإقليم دارفور، خرج من دائرة الفعل السياسي والاقتصادي تحت هيمنة قوات الدعم السريع، بينما وجدت القوى المدنية، التي حملت لواء الاحتجاجات منذ 2018، نفسها على هامش المشهد. في هذا الفراغ، تولدت معادلة قوة جديدة، يتصدرها الفريق أول عبد الفتاح البرهان وحيداً على قمة الهرم، يجاوره تحالف لنائبه شمس الدين كباشي مع حركات دارفور المسلحة، فيما يعود التيار الإسلامي بهدوء ليجد موطئ قدم في مفاصل الدولة. هذه الخريطة المعقدة تدعونا لإعادة قراءة استراتيجية البرهان الأخيرة، بتعيين كامل إدريس رئيساً للوزراء وإعادة ترتيب أوراق السلطة.

أولاً: تحولات ميزان القوى بعد عاصفة الحرب

  • الحركات المسلحة: كانت ذات يوم رقماً صعباً على طاولة المفاوضات، تجد نفسها اليوم لاعباً هامشياً بعد أن أفقدتها هيمنة الدعم السريع على دارفور عمقها الاستراتيجي والاقتصادي. بات اعتمادها على مظلة كباشي و التاجرة باسم الإقليم و مواطنيه .
  • القوى المدنية: تراجعت أصواتها من ميادين التغيير إلى منابر الإعلام في العواصم الإقليمية، لتضعف قدرتها على فرض أي كلفة سياسية مباشرة على خطوات البرهان.
  • الدعم السريع: يتمدد كالأخطبوط على الأرض، لكنه فقد غطاءه السياسي والمالي الرسمي، ليرتبط بقاؤه بخيوط الدعم الخارجي ومناجم الذهب البعيدة عن أعين الدولة.
  • الإسلاميون:  استفادوا من الفراغ المدني واختلال التوازنات، ليعودوا كخلايا نائمة تستيقظ في مفاصل البيروقراطية والأمن، وكمصدر للتعبئة الأيديولوجية لبعض القيادات.
  • المؤسسة العسكرية: لم تعد جسداً واحداً، بل انقسمت فعلياً إلى جناحين؛ جناح البرهان الساعي لارتداء عباءة الشرعية الدولية عبر وجوه تكنوقراطية، وجناح كباشي الذي ينسج تحالفات الداخل مع الحركات لضمان نفوذ ميداني وأمني.

ثانياً: دوافع البرهان في سياق اللعبة الجديدة

فما الذي يدفع البرهان إلى هذه المناورات المحسوبة في هذا المشهد المعقد؟

  • انتزاع الشرعية الخارجية: يستثمر في شخصية دولية مثل كامل إدريس، ليقول للمجتمع الدولي إنه “رجل الدولة” الأقرب لخياراتهم، مقارنة بفوضى الدعم السريع أو صراحة الإسلاميين.
  • تهميش الحركات وكباشي: بنزع الوزارات الجبائية وإلغاء إشراف السيادي، يسحب البساط المالي من تحت أقدام تحالف كباشي-الحركات، مانعاً إياهم من بناء قوة موازية داخل الجيش.
  • منع عودة المدنيين بشروطهم: يُبقي القوى المدنية خارج دائرة صنع القرار، دون إقصاء معلن، مقايضاً إياهم بالاستقرار مقابل دور استشاري قد يأتي لاحقاً.
  • تطويق الإسلاميين: يسمح بتوظيف كوادرهم الإدارية لسد الفراغ، لكنه يُحجم طموحاتهم السياسية عبر واجهة تكنوقراطية.

ثالثاً: مكاسب البرهان التكتيكية: قطاف سريع

تبدو استراتيجية البرهان، على المدى القصير، وكأنها تحقق له مكاسب تكتيكية لا يمكن إنكارها:

  • توحيد الخزانة العامة تحت سلطة مركزية، قد يمنحه القدرة على دفع رواتب الجيش وتمويل آلة الحرب.
  • اكتساب ورقة تفاوضية ثمينة أمام المجتمع الدولي، كقائد “عاقل” في مواجهة ما يُنظر إليه كفوضى الدعم السريع.
  • تقليص هامش المناورة لدى كباشي والحركات، عبر حرمانهم من الوزارات الإيرادية والإشراف التنفيذي الذي كان يمنحهم نفوذاً.

رابعاً: المخاطر البنيوية: ألغام تحت السطح

ولكن، خلف هذه المكاسب اللحظية، تكمن مخاطر بنيوية عميقة قد تقوّض أسس أي استقرار منشود:

  • قابلية الانقسام داخل الجيش: تحجيم كباشي قد يدفعه وجناحه إلى تحالف أعمق مع الإسلاميين، أو حتى تفاهمات تكتيكية مع الدعم السريع لخلق توازن قوى جديد ضد البرهان.
  • صعود الإسلاميين: إذا شعروا بأن البرهان يستخدمهم كجسر عبور ثم يُقصيهم، فقد يعجلون بفرض أجندتهم داخل أجهزة الدولة، ما يعيد السودان إلى مربع العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية.
  • اقتصاد ممزّق وفساد متجذّر: السيطرة المركزية على الموارد دون إصلاحات حقيقية أو شفافية، تعني توسيع دوائر الفساد، وإطالة أمد الانهيار النقدي والخدمي، وهو ما يهدد بانفجار اجتماعي لا يمكن التكهن بعواقبه.
  • فقدان الشرعية الشعبية: نجاح البرهان المؤقت في ضبط إيقاع العاصمة لا يترجم بالضرورة إلى قبول شعبي مستدام. حكومته التكنوقراطية قد تواجه رفضاً واسعاً عند أول نافذة تتيح للشارع التعبير عن رأيه بحرية.

خامساً: سيناريوهات المستقبل: أي الطرق يسلك السودان؟

في ظل هذه المعطيات، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل السودان القريب:

  • أ. تثبيت معادلة «العسكر-التكنوقراط-الإسلاميين»: يمسك البرهان بزمام موارد الدولة وقرار الحرب والسلم، بينما يوفر الإسلاميون الظهير البيروقراطي. لكنّ هذا السيناريو يبقى هشاً، ويعتمد على استمرار استبعاد كباشي والحركات والدعم السريع من المعادلة.
  • ب. انشطار المؤسسة العسكرية: إذا تفاقم الخلاف بين البرهان وكباشي، قد يتصدع الجيش من الداخل، وهو ما قد يستغله الدعم السريع لتوسيع نفوذه، ليتحول الصراع إلى حرب ثلاثية لا مركزية ومدمرة.
  • ج. تسوية إقليمية/دولية مشروطة: قد تدفع ضغوط الجوار (مصر، السعودية، الغرب) والمانحين الغربيين الأطراف إلى حوار أمني واقتصادي، يفرض إعادة هيكلة الجيش وتوحيده، ويضع جدولاً زمنياً لانتخابات مؤجلة.

رهان على ضفاف النيل

في نهاية المطاف، تمكن البرهان من تحقيق تقدم تكتيكي ملحوظ على رقعة الشطرنج السودانية، مستفيداً من تحييد حركات دارفور وتراجع المدنيين. لكن نجاحه النهائي مرهون بقدرته على التعامل بحكمة ودقة مع توازنات داخلية هشة ومتغيرة، ومع مجتمع دولي متحفز ويراقب عن كثب. أي إخفاق في احتواء طموحات كباشي، أو لجم تغلغل الإسلاميين، أو معالجة الانهيار الاقتصادي المتسارع، قد يجعل هذه المكاسب اللحظية مجرد مقدمة لمرحلة أشد فوضى وعنفاً، تعيد إنتاج دورات الصراع المزمنة التي أنهكت السودان وأبناءه على ضفاف النيل الخالد. الرهان الحقيقي يكمن في تحويل هذه المناورات إلى استقرار دائم، وليس مجرد فصل جديد في حكاية الألم السوداني.

سوار الذهب النوبي

سوار الذهب, مواطن نهري ، اقتصادي متخصص في الاقتصاد الكلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى