البلادة السياسية فى خطاب الإسلاميين و الدولجية
في مشهد يعكس حالة الانحطاط الفكري و البلادة السياسية التي وصل إليها الخطاب السياسي في السودان، خرج علينا الإسلاميون (الكيزان) و الدولجية (عباد حدود المستعمر) بادعاء مثير للسخرية: أن العقوبات الأمريكية على السودان جاءت بسبب منشور كتبه الدكتور عبدالرحمن عمسيب على منصة فيسبوك! هذا الخطاب البليد الذي يختزل العلاقات الدولية المعقدة وقرارات العقوبات الاستراتيجية في “بوست فيسبوك”، ليس إلا امتداداً للنهج الفكري السطحي الذي ورثوه عن ثورة ديسمبر “الملونة”.
الثورة التي بشرت بالتغيير، انتهت بإنتاج طبقة سياسية فاسدة وصراع دموي وحرب أهلية طاحنة، وتركت إرثاً من الخطاب المأزوم الذي يستخدمه اليوم خصومها. فبدلاً من التحليل العميق للأزمات المتلاحقة، والبحث في جذور العلاقات الدولية المعقدة، يلجأ هؤلاء إلى تفسيرات سطحية تتناسب مع مستوى وعيهم السياسي المتدني.
المفارقة المؤلمة أن نفس الآليات التي استخدمت خلال الثورة لتشويه الخصوم وتخوينهم، أصبحت اليوم سلاحاً في يد الكيزان و الدولجية يوظفونه ضد معارضيهم. هذا التوظيف البليد للخطاب السياسي المبتذل، يعكس عجزاً فكرياً عن مواجهة الأفكار بالأفكار، والحجج بالحجج، فيلجأون بدلاً من ذلك إلى التشويه والاتهام بالعمالة، في محاكاة كاريكاتورية للخطاب الذي كان سائداً خلال فترة الثورة
تشريح الخطاب السياسي البليد: آليات الانحطاط
1. الاختزال المخل: تسطيح العالم المعقد
يميل أصحاب الخطاب البليد إلى اختزال العالم في ثنائيات متضادة: إما مع أو ضد، إما وطني أو عميل، إما صديق أو عدو. هذا الاختزال ليس مجرد تبسيط معرفي، بل استراتيجية سياسية متعمدة تهدف إلى:
- إلغاء المساحات الرمادية التي تسمح بالتفكير النقدي
- فرض “الولاء السياسي الكامل” كشرط للقبول في المجموعة
- تحويل الخلافات السياسية إلى صراعات وجودية لا تقبل التسوية
هذا الاختزال يتجلى في كيفية مقاربة قضايا مثل العقوبات الدولية، حيث يتم تجاهل التاريخ المعقد للسياسة الخارجية الأمريكية، والمصالح المتشابكة للقوى الإقليمية، وديناميات الصراع المحلي، ليتم اختزال الأمر في “منشور فيسبوك” أو “مؤامرة خارجية”.
2. الاتهام بالعمالة: سلاح الإقصاء المفضل
اتهام المعارضين بالعمالة للخارج أصبح “الحجة النهائية” التي تُستخدم عندما تنتهي كل الحجج. هذه الآلية:
- تنقل النقاش من مستوى الأفكار إلى مستوى النوايا (التي لا يمكن إثباتها أو نفيها)
- تضع المتهم في موقف دفاعي لإثبات وطنيته، بدلاً من مناقشة أفكاره
- تستغل المشاعر الوطنية وتوظفها لأهداف سياسية ضيقة
- تقتل الفضاء العام بتحويل الاختلاف السياسي إلى تهمة خيانة
ومن المفارقات أن أكثر من يوظفون هذا الاتهام هم من كانوا بالأمس محل اتهامات مماثلة، وبدلاً من كسر هذه الحلقة المفرغة، يساهمون في استمرارها.
3. التفكير التآمري: عقلية الحصار الدائم
يعتمد الخطاب البليد على عقلية تآمرية ترى في كل حدث مؤامرة مدبرة:
- العقلية التآمرية تلغي فكرة المصادفة والتعقيد من الأحداث السياسية
- تفترض وجود قوى خفية تتحكم في كل شيء، مما يلغي المسؤولية المحلية
- تخلق شعوراً بالحصار الدائم الذي يبرر كل الإجراءات القمعية
- تعزز الشعور بالعجز الجماعي وتُضعف القدرة على المبادرة والفعل
نموذج هذا التفكير يتجلى في تفسير العقوبات الدولية بأنها نتيجة منشور في فيسبوك، متجاهلاً تعقيدات السياسة الدولية والمصالح الاستراتيجية والتقارير الدولية التي تبنى عليها مثل هذه القرارات.
4. الجهل المركب: البلادة كاستراتيجية
يتسم الخطاب البليد بجهل مركب، ليس فقط بالحقائق، بل بأهمية المعرفة ذاتها:
- رفض قراءة الوثائق الأصلية أو الاطلاع على مصادر المعلومات الأولية
- الاعتماد على مصادر إعلامية وحيدة تؤكد التوجه الفكري السابق
- الخلط المتعمد بين الحقائق والآراء، والمعلومات والشائعات
- التعامل مع المعرفة والخبرة كأعداء، والاحتفاء بـ”الحس الشعبي” على حساب الدراسة والتحليل
وهذا ما نراه في تعامل الكيزان و الدولجية مع نصوص العقوبات الدولية، حيث يتجاهلون قراءة النصوص الأصلية والتقارير، ويكتفون بتفسيرات مسيسة تخدم أجندتهم.
أصحاب الخطاب البليد: بورتريه نفسي وسياسي
الكسل المعرفي: ثقافة الاختصارات الفكرية
يعاني أصحاب هذا الخطاب من كسل معرفي مزمن يتجلى في:
- تفضيل “الوجبات الفكرية السريعة” على التحليل العميق
- الاعتماد على “الهاشتاغات” و”المانشيتات” بدلاً من قراءة التقارير الكاملة
- تبني “المواقف الجاهزة” التي توفرها المنابر الحزبية دون تمحيص
- الاستسهال الفكري الذي يرفض بذل أي جهد للوصول إلى الحقيقة المعقدة
مثال على ذلك هو تعامل الدولجي مع قضية العقوبات، حيث “لم يكلف نفسه حتى يقرأ نص العقوبات ولا يراجع تقارير 2024 التي استندوا عليها فيها”، مكتفياً بالقشور والتفسيرات السطحية.
السطحية الفكرية: عصر الاستنتاجات السريعة
تتجلى السطحية الفكرية عند هؤلاء في:
- التعامل مع القضايا المعقدة بتبسيط مخل يفقدها جوهرها
- القفز إلى الاستنتاجات دون المرور بمراحل التحليل والتمحيص
- الخلط بين الارتباط العرضي والعلاقة السببية في تفسير الأحداث
- عدم القدرة على فهم تعدد العوامل المؤثرة في صناعة القرارات السياسية
هذه السطحية تؤدي إلى تحليلات كاريكاتورية للواقع السياسي، وتدفع بالحوار العام نحو الابتذال والتسطيح.
النفاق السياسي: ازدواجية المعايير
يبرز النفاق السياسي كسمة أساسية لأصحاب الخطاب البليد:
- انتقاد ممارسة معينة عندما يقوم بها الخصم، وتبريرها عندما يقوم بها الحليف
- التغاضي عن عيوب “معسكرنا” والتركيز المبالغ فيه على عيوب “المعسكر الآخر”
- استخدام مصطلحات مختلفة لوصف نفس الظاهرة حسب هوية الفاعل
- تغيير المواقف والقناعات بسرعة وفقاً للمصالح السياسية اللحظية
هذا النفاق يظهر بوضوح في مواقف الكيزان، الذين يتهمون غيرهم بالعمالة، بينما تاريخهم حافل بالتقلبات في الولاءات الخارجية والارتباط بمشاريع عابرة للحدود.
القابلية للتلاعب: الضحية المتواطئة
تظهر قابلية أصحاب الخطاب البليد للتلاعب في:
- سهولة استقطابهم من خلال خطاب عاطفي يدغدغ مشاعرهم الدينية أو القومية
- استعدادهم لتصديق أي معلومة تؤكد تحيزاتهم المسبقة، مهما كانت غير منطقية
- ميلهم للانخراط في “ثقافة القطيع” السياسي، حيث يتبنون مواقف جماعتهم دون تفكير
- افتقارهم للحصانة الفكرية ضد التلاعب الإعلامي والدعاية المنظمة
هذه القابلية للتلاعب تحول المواطن من فاعل سياسي واعٍ إلى أداة في يد النخب السياسية، يتم توجيهه حسب المصلحة اللحظية.
خطورة الخطاب البليد: تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي
1. قتل النقاش الجاد: موت الأفكار
عندما يتحول الحوار السياسي إلى تبادل اتهامات بالعمالة والخيانة:
- تختفي النقاشات الموضوعية حول القضايا الملحة (الاقتصاد، الصحة، التعليم)
- يتراجع المفكرون والخبراء عن المشاركة في النقاش العام خوفاً من التشويه
- تسود ثقافة الترهيب الفكري التي تعاقب أي خروج عن “الإجماع” المزعوم
- تضمحل قدرة المجتمع على إنتاج حلول مبتكرة لمشاكله المزمنة
2. منع المحاسبة الحقيقية: تضليل البوصلة
يعمل الخطاب البليد على:
- إلهاء الناس بمعارك جانبية بدلاً من محاسبة المسؤولين على فشل سياساتهم
- خلق أعداء وهميين لتحويل الانتباه عن الفساد والاستبداد الحقيقي
- استنزاف الطاقة السياسية في صراعات رمزية لا تمس جوهر المشكلات
- إعطاء الفاشلين فرصة للهروب من المساءلة عبر توظيف خطاب “المؤامرة الخارجية”
3. تقسيم المجتمع
من أخطر آثار هذا الخطاب:
- تحويل الاختلافات السياسية إلى خنادق اجتماعية وثقافية
- تدمير المساحات المشتركة التي تجمع المواطنين على اختلاف توجهاتهم
- خلق “فقاعات”
دورة البلادة السياسية – من ثورة ديسمبر إلى الكيزان و الدولجية
تمثل البلادة السياسية اليوم السمة الأبرز للمشهد السوداني الراهن، حيث ورث الكيزان و الدولجية (عباد حدود المستعمر) هذا الخطاب المأزوم من ثورة ديسمبر “الملونة”، في تكرار مأساوي للتاريخ. فبدلاً من التعلم من دروس الماضي، أعادوا إنتاج نفس آليات التخوين والاتهام بالعمالة التي استخدمت ضدهم سابقاً.
المفارقة المؤلمة أن نفس سلاح الاتهامات الجاهزة الذي يوظفه الكيزان اليوم ضد خصومهم، سينقلب عليهم حتماً، تماماً كما انقلبت كل أدوات القمع الفكري على مستخدميها عبر التاريخ. هذه الدورة من البلادة المتوارثة، التي تنتقل من معسكر إلى آخر، تكشف العجز الجماعي عن التعلم من دروس الماضي، وتعكس إفلاساً فكرياً يتجاوز الانتماءات الأيديولوجية.
في النهاية، لن يتعافى المشهد السياسي السوداني إلا بكسر هذه الحلقة المفرغة من البلادة السياسية، والتأسيس لثقافة الحوار والنقد البناء والمساءلة الموضوعية، بعيداً عن الشعارات الجوفاء واتهامات العمالة التي أصبحت غطاءً للعجز الفكري والسياسي.