في تاريخ السودان الحديث، لم يشهد البلد مأساة بحجم ما جلبته الحرب الأخيرة، التي اندلعت شرارتها من صراعات معقدة في إقليم دارفور، لتتسع رقعتها وتلتهم قلب الوطن، وتترك جراحاً غائرة في جسد الدولة والمجتمع. لم تكن هذه الحرب مجرد مواجهة عسكرية بين قوات نظامية ومجموعات مسلحة، بل كانت زلزالاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، دفع ثمنه المواطن النهري البسيط، خاصة في مناطق النهر والبحر، التي لم تكن طرفاً في النزاع، لكنها تحملت العبء الأكبر من الخسائر.
جذور الأزمة: دارفور في قلب العاصفة
منذ مطلع الألفية، ظل إقليم دارفور مسرحاً لصراعات مسلحة بين ابناء دارفور ومجموعات مسلحة، نشأت من رحم الإقليم ذاته، مثل الحركات المسلحة المعروفة، والبعض الآخر تمثل في قوات الجنجويد التي لعبت دوراً محورياً في النزاع. ومع تصاعد التوترات، انتقلت شرارة الحرب إلى العاصمة الخرطوم ومدن الشمال والشرق، لتتحول إلى حرب شاملة لم تترك بيتاً إلا وأصابته بضرر.
الخسائر: من يدفع الثمن؟
تشير الإحصاءات الاقتصادية إلى أن السودان فقد خلال عامين فقط من الحرب أكثر من 33 مليار دولار من الناتج القومي، وتجاوزت الخسائر الرأسمالية 600 مليار دولار، فضلاً عن الانهيار المريع في قيمة العملة الوطنية. لكن المفارقة المؤلمة أن معظم هذه الخسائر وقعت في مناطق النهر والبحر، حيث تتركز البنية التحتية الحيوية، والمؤسسات الاقتصادية، والمراكز السكانية الكبرى. لقد كان المواطن في هذه المناطق هو الضحية الأولى، رغم أن جذور النزاع وأطرافه الأساسية جاءت من خارج هذه الجغرافيا.
دراسة مالية تفصيلية: كم من الزمن يحتاج السودان لتعويض الخسائر؟
لفهم حجم الكارثة الاقتصادية التي خلفتها الحرب، يمكننا الاستناد إلى نموذج مالي مبسط مبني على الأرقام الواقعية قبل الحرب وبعدها:
المعطيات الأساسية (قبل الحرب):
- الناتج القومي السنوي (GDP₀): حوالي 40 مليار دولار.
- معدل الادخار والاستثمار السنوي (مجمّع القطاعين العام والخاص): 20% من الناتج، أي حوالي 8 مليارات دولار سنوياً كاستثمار جديد.
- معدل الإهلاك الرأسمالي الطبيعي: 5% سنوياً.
- التضخم وتراجع العملة عاملان مهمان، لكنهما خارج حساب السنوات في هذا النموذج.
تعويض فقدان الناتج القومي (33 مليار دولار):
- حجم الفجوة: 33 / 40 = 0.825، أي فقد السودان ما يعادل 82.5% من إنتاج سنة كاملة.
- نفترض سيناريوهات نمو حقيقي بعد الاستقرار الأمني:
- متواضع: 5% سنوياً.
- متوسط: 7% سنوياً.
- طموح: 10% سنوياً.
- مدة التعويض التقريبية (n) تحسب من المعادلة:
- gap = 33/40 = (1+g)ⁿ − 1 ⇒ n = ln(1 + 0.825)/ln(1 + g)
- النتائج التقريبية:
- بمعدل نمو 5%: n ≃ ln(1.825)/ln(1.05) ≃ 16.7 سنة.
- بمعدل نمو 7%: n ≃ ln(1.825)/ln(1.07) ≃ 10 سنوات.
- بمعدل نمو 10%: n ≃ ln(1.825)/ln(1.10) ≃ 6.7 سنوات.
إعادة بناء رأس المال المُدَمَّر (600 مليار دولار):
- نفترض استثماراً سنوياً صافياً بقيمة 8 مليارات دولار، مع عائد محفظي متوسط 5% سنوياً.
- المعادلة التراكمية لرأس المال الجديد S بعد n سنوات:
- S = I · [ ( (1+r)ⁿ − 1 ) / r ]
- حيث I = 8 مليار دولار، r = 5%، ونريد S = 600 مليار دولار.
- تحليل المعادلة:
- ( (1.05)ⁿ − 1 ) / 0.05 = 600 / 8 = 75
- (1.05)ⁿ − 1 = 3.75
- (1.05)ⁿ = 4.75
- n = ln(4.75) / ln(1.05) ≃ 31.9 سنة
- أي أن السودان يحتاج نحو 32 سنة لإعادة بناء 600 مليار دولار من رأس المال المفقود إذا استمر الاستثمار الصافي عند 20% من الناتج ومع عائد 5%.
- إذا ارتفعت نسبة الاستثمار إلى 25% من الناتج (I=10 مليارات دولار) أو تحسن العائد إلى 6%، تنخفض المدة إلى 25–28 سنة تقريباً.
خلاصة نماذج السيناريو:
- تعويض الإنتاجية المفقودة (33 مليار دولار): بين 7 و17 سنة حسب سرعة وتيرة النمو الحقيقي.
- إعادة بناء رأس المال (600 مليار دولار): بين 25 و35 سنة حسب معدل الاستثمار والعائد.
توصيات للإسراع بعملية التعافي:
- رفع معدل الاستثمار الكلي (عام + خاص) إلى 25–30% من الناتج القومي.
- جذب تمويل خارجي ومنح واستثمارات مباشرة تشارك بنحو 40–50% من قيمة إعادة الإعمار.
- تعزيز العوائد عبر إصلاح بيئة الأعمال وتحسين حوكمة القطاع المالي.
- التركيز على مشاريع بنية تحتية مولّدة للدخل (طرق رئيسية، طاقة، زراعة مدعومة) لرفع نمو الناتج فوق 7%.
مفارقة التعويض: موارد النهر والبحر في مواجهة فاتورة الحرب
اليوم، تتجه الأنظار إلى إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي. وهنا تبرز المفارقة الكبرى: فالموارد التي ستُستخدم لتعويض الخسائر وإعادة بناء ما دمرته الحرب، ستأتي في معظمها من مناطق النهر والبحر، سواء عبر الزراعة أو التجارة أو الاستثمارات أو حتى الضرائب. المواطن النهري، الذي لم يكن طرفاً في إشعال الحرب، سيجد نفسه مطالباً بتحمل عبء التعويض والإنفاق، في حين أن من أشعلوا فتيل الأزمة قد لا يتحملون سوى القليل من التبعات.