البروفيسور عبد الرحيم حمدي شخصية اقتصادية سودانية بارزة، حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، شغل منصب وزير المالية السوداني في عدة فترات خلال العقود الماضية، وكان له دور محوري في وضع السياسات الاقتصادية للبلاد. عُرف بمقاربته العلمية والعملية للتحديات الاقتصادية، مستنداً إلى تحليلات مدعومة بالأرقام بعيداً عن التوجهات الأيديولوجية. قدم حمدي نظرية “المثلث الاقتصادي” التي ترى أن التنمية الاقتصادية للسودان ينبغي أن تركز على مناطق جغرافية محددة تمتلك مقومات الاستقرار والإنتاجية، لتكون بمثابة محرك اقتصادي للبلاد بأكملها.

المنهج البراغماتي في الاقتصاد
البراغماتية في الاقتصاد منهج يقوم على تقييم السياسات والنظريات الاقتصادية وفقاً للنتائج العملية وليس مثاليتها النظرية أو انحيازها الأيديولوجي. يتميز هذا المنهج بـ:
- الواقعية التطبيقية: التعامل مع الظروف والمعطيات كما هي وليس كما يُفترض أن تكون.
- المرونة في الأدوات: استخدام مزيج من الأدوات الاقتصادية المختلفة اعتماداً على فعاليتها وليس على انتمائها النظري.
- الاهتمام بالنتائج القابلة للقياس: تقييم النجاح وفقاً لمؤشرات قابلة للقياس مثل معدلات النمو والإنتاجية.
- التدرج والمرحلية: الانتقال من الممكن إلى المأمول عبر مراحل متتابعة بدلاً من القفزات الطموحة غير الواقعية.
تمثل نظرية مثلث حمدي تطبيقاً واضحاً للمنهج البراغماتي، إذ تنطلق من تقييم واقعي للموارد المتاحة والمخاطر المحتملة، وتسعى لتعظيم العائد الاقتصادي ضمن المعطيات الراهنة، متجاوزة الطموحات المثالية التي قد تكون غير قابلة للتطبيق في ظل التحديات القائمة.
في خضم التحديات الاقتصادية والصراعات المتواصلة التي تواجه السودان، تبرز نظرية مثلث حمدي كنموذج اقتصادي براغماتي يستحق إعادة التقييم. فعلى ضوء الأحداث المأساوية التي شهدتها البلاد مؤخراً، أصبح جلياً أن التركيز على المناطق ذات الاستقرار النسبي والإمكانات الإنتاجية العالية يمثل مساراً اقتصادياً رشيداً. ويأتي إقليم النهر والبحر في صدارة هذه المناطق التي يمكن أن تشكل قاطرة التنمية الاقتصادية المستدامة.
المقومات الاقتصادية لإقليم النهر والبحر
يتمتع إقليم النهر والبحر بمزايا اقتصادية فريدة تجعله محوراً مثالياً في إطار مثلث حمدي:
- الموارد المائية الوفيرة: موقعه على نهر النيل ومنافذه البحرية يوفر موارد مائية مستدامة للزراعة والطاقة.
- البنية التحتية المتطورة نسبياً: يمتلك الإقليم شبكة طرق ومواصلات وخدمات أساسية أفضل من المناطق الأخرى.
- الاستقرار النسبي: لم يشهد الإقليم الصراعات القبلية والإثنية المستعرة التي شهدتها مناطق أخرى.
- التنوع الاقتصادي: يجمع بين الإمكانات الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية.
- الموارد البشرية المؤهلة: يضم تركيزاً للكفاءات والأيدي العاملة المدربة.
الجدوى الاقتصادية للتركيز على إقليم النهر والبحر
من منظور اقتصادي بحت، يمكن تقديم الحجج التالية:
أولاً: العائد الاستثماري المرتفع
الاستثمار في إقليم النهر والبحر يحقق عائداً أعلى بتكلفة أقل نظراً لوجود بنية تحتية أساسية يمكن البناء عليها. فالدينار المستثمر هنا يحقق عائداً أكبر من استثماره في مناطق تتطلب بنية تحتية من الصفر.
ثانياً: إمكانية التصدير والوصول للأسواق العالمية
بفضل منافذه البحرية والنهرية، يمتلك الإقليم ميزة تنافسية في التجارة الخارجية وانخفاض تكاليف النقل، مما يجعله منصة مثالية لصناعات التصدير.
ثالثاً: الأمن الغذائي كأولوية اقتصادية
الإقليم يمتلك إمكانات زراعية هائلة يمكن تطويرها بسرعة نسبية لتحقيق الأمن الغذائي، وهو ما يمثل أولوية اقتصادية في ظل الأزمات العالمية.
رابعاً: القدرة على الصمود الاقتصادي
لقد أثبت الإقليم قدرة أكبر على الصمود في وجه الصدمات، كما ظهر خلال الحرب الأخيرة، مما يقلل من مخاطر الاستثمار ويعزز الاستدامة الاقتصادية.
دروس من الواقع الراهن
الأحداث الأخيرة في السودان تقدم دروساً واقعية تدعم المنطق الاقتصادي لمثلث حمدي:
- تكلفة إعادة الإعمار: المناطق التي شهدت صراعات تحتاج إلى استثمارات مضاعفة لإعادة بناء ما تم تدميره.
- نزوح الاستثمارات: شهدنا كيف تتجه الاستثمارات المحلية والأجنبية نحو المناطق الأكثر استقراراً.
- تكلفة الفرصة البديلة: الموارد المستنفدة في معالجة آثار الصراعات كان يمكن توجيهها نحو التنمية المستدامة.
الرؤية الاقتصادية المستقبلية
بناءً على مثلث حمدي، يمكن تطوير رؤية اقتصادية لإقليم النهر والبحر تقوم على:
- التركيز على القطاعات ذات الميزة التنافسية: الزراعة المتطورة، الصناعات الغذائية، الخدمات اللوجستية.
- توطين سلاسل القيمة: بناء منظومات إنتاجية متكاملة تحقق أقصى قيمة مضافة محلياً.
- جذب رؤوس الأموال: توفير حوافز استثمارية للقطاع الخاص المحلي والأجنبي ضمن بيئة مستقرة.
- التنمية المرحلية: تطوير الإقليم كقاعدة اقتصادية متينة .
خاتمة
في ضوء التحليل الاقتصادي البراغماتي لنظرية البروفيسور حمدي، والدروس المستفادة من الصراعات المتكررة التي عصفت بالسودان، تبرز رؤية جذرية تستحق التأمل: لكي يتمكن إقليم النهر والبحر من تطبيق هذه النظرية الاقتصادية بفعالية قصوى، يكون الحل الأمثل هو تأسيس دولة مستقلة
هذا الدولة تمكن صاحب القرار الاقتصادي من :
- يحرر طاقاته الاقتصادية: بعيداً عن الاستنزاف المستمر للموارد نتيجة الصراعات اللانهائية في الأقاليم الأخرى.
- يستثمر موارده بكفاءة: توجيه الموارد المالية والبشرية نحو التنمية المستدامة بدلاً من إهدارها في محاولات حل نزاعات متجذرة تاريخياً.
- يؤسس لنموذج اقتصادي مستقر: بناء نظام اقتصادي مستقر مبني على الإنتاج والتصدير وليس على الصراعات والمساعدات.
- ينطلق نحو التنمية المستدامة: التركيز على استثمار المقومات الطبيعية والبشرية دون عائق الارتباط بأقاليم تحولت عبر عقود إلى بؤر للصراع وليس للإنتاج.
- يخلق قوة اقتصادية إقليمية: بمنافذه البحرية و موارده المائية وأراضيه الخصبة، يمكن أن يتحول إلى قوة اقتصادية إقليمية في شرق أفريقيا.
إن الأحداث المتلاحقة أثبتت أن محاولات التعايش الاقتصادي بين أقاليم منتجة وأخرى متصارعة قد استنزفت موارد البلاد لعقود دون تحقيق تنمية حقيقية. الفكر الاقتصادي البراغماتي يقتضي الاعتراف بأن استمرار ربط الأقاليم المنتجة والمستقرة بتلك التي تحولت إلى ساحات حرب دائمة يمثل إهداراً للموارد المحدودة يعيق أي فرصة للتنمية الحقيقية.
من هذا المنطلق، يمكن اعتبار استقلالية دولة النهر والبحر استجابة عملية للواقع الاقتصادي، وتطبيقاً صارماً لنظرية البروفيسور حمدي في تركيز الموارد حيث يمكنها أن تحقق أقصى عائد. هذا المسار قد يوفر فرصة لبناء نموذج اقتصادي ناجح يمكن أن يلهم بقية الأقاليم مستقبلاً لتبني اختيارات مماثلة تؤدي إلى الاستقرار والتنمية، بدلاً من الاستمرار في دوامة الصراعات التي لم تثمر سوى المزيد من التخلف والفقر.
إن الحكمة الاقتصادية تقتضي أحياناً اتخاذ قرارات جذرية عندما تفشل الحلول التقليدية. وقد آن الأوان لتطبيق مثلث حمدي بشكل حاسم، من خلال تمكين إقليم النهر والبحر من تحقيق إمكاناته الكاملة كنموذج اقتصادي رائد، بعيداً عن الأعباء التي فرضتها الأقاليم غير المنتجة والتي لم تقدم سوى الحروب والصراعات على مدى العقود الماضية.