سقطت الخرطوم في 26 يناير، وكان ذلك يوم اثنين، أما اليوم الذي سبقه، الأحد 25 يناير، فقد كان يوماً لن ينساه سلاطين باشا أبداً، كما ذكر في مذكراته. في مساء ذلك اليوم، عبر المهدي وخلفاؤه النيل على متن مركب ليصلوا إلى حيث تجمع محاربوهم استعدادًا للقتال. وبعد أكثر من مائة عام، سقطت الخرطوم مرة أخرى، ولكن في صباح سبت هذه المرة، لن ننساه أبداً نحن الذين عاصرناه. إنه لمن العجيب أن التاريخ في السودان يتكرر بطريقة يكاد يكون فيها المشهدان متطابقين، وكأنما يوقع الزمن الحافر بالحافر.
حين تقرأ ما أورده سلاطين عن استباحة الخرطوم، لا تملك إلا أن تتعجب من مأساة التاريخ في هذه البلاد وغفلة أهلها. ففي صباح اليوم التالي، يقول سلاطين، تحرك جمع غفير نحو خيمته، يتقدمهم ثلاثة من الجنود السودانيين، أحدهم يدعى “شطة”، كان يحمل في يده قطعة قماش ملطخة بالدماء، ملفوف بداخلها شيء ما. اقترب العبيد من خيمته ووقفوا أمامه يمارسون عليه السخرية والإهانة، ثم رفع شطة غطاء القماش فإذا رأس الجنرال غوردون هناك، بعينيه الزرقاوين نصف المفتوحة، وفمه الذي يبدو طبيعياً، ولكن شعر رأسه وعارضيه كان قد غزاهما الشيب.
سأله شطة بسخرية: “أليس هذا رأس عمك الكافر؟” ثم سار حاملاً الرأس متوجهاً إلى المهدي. أما سلاطين، فقد دخل خيمته محطم الفؤاد من هول ما رأى؛ لقد سقطت الخرطوم ومات غوردون.
يروي سلاطين تفاصيل مقتل غوردون مشيراً إلى أنه كان واقفاً في أعلى سلم القصر، وعندما سأله المهاجمون عن مكان المهدي، لم يبد اهتماماً، فبادر أول الواصلين بغرز حربته في جسده، فسقط غوردون على وجهه دون أن ينطق بكلمة. ثم جُرّت جثته على السلالم حتى مدخل القصر، وهناك قطعت رأسه وأُرسلت للمهدي في أم درمان، أما الجثة فقد تُركت لغلاة المتعصبين لينالوا منها، حتى تحولت إلى كومة من اللحم الممزق، ولبثت بقع الدماء فترة طويلة شاهدة على بشاعة المشهد.
يذكر سلاطين أن المهدي لما قدموا له رأس غوردون علق قائلاً إنه كان يفضل أن يؤسر حياً لينوي إدخاله الإسلام، ثم يسلمه للإنجليز مقابل تسليمهم له أحمد عرابي الذي كان يأمل في مساعدته لغزو مصر. لكن سلاطين يعلّق على ذلك قائلاً إن أسف المهدي لم يكن صادقاً، فلو كان المهدي يريد حقًا بقاء غوردون حياً لما تجرّأ أحد على مخالفته. وهنا ثمة مسألة جديرة بالتأمل: اعتقاد المهدي بإمكانية غزو مصر بمساعدة أحمد عرابي!
بعد سقوط الخرطوم، استباح جنود المهدي المدينة. ويقول سلاطين إن الفظائع والتجاوزات التي ارتكبت أثناء المذبحة تفوق الوصف. اختار عدد غير قليل من الأهالي أن يضعوا نهاية لحياتهم بأنفسهم، وقتل كثيرون على يد خدمهم وعبيدهم الذين كانوا قد انضموا إلى المهدي وصاروا مرشدين لجحافل المتعطشين للسلب والغنائم. ويضيف: “التاريخ يكرر نفسه كمأساة في المرة الأولى ثم كملهاة في المرة الثانية”؛ فمن سماهم سلاطين بالمرشدين في الخرطوم الأولى، ظهروا بعد قرن ونيف في سقوط الخرطوم الثانية باسم المتعاونين.
تعذيب الأهالي كان واسع النطاق: الجلد بالسياط حتى تهرأ اللحم، وتعليق الناس من إبهاميهم حتى يفقدوا الوعي، وتعذيب الخيزران المشقوق على صدغي الرجل، وحتى العجائز كن يعذبن. وحدهن الصغيرات من النساء سلمن من التعذيب لأهداف أخرى؛ فتم فرزهن ليصبحن جزءًا من حريم المهدي، الذي اختار بعضهن في نفس يوم سقوط الخرطوم، بينما أحيلت أخريات إلى خلفائه وكبار أمرائه، واستمر هذا الأمر لأسابيع حتى اكتظت بيوت القادة بهؤلاء الشابات التعيسات.
في اليوم التالي أعلن العفو العام عن الجميع إلا الشايقية، لكن الفظائع استمرت. أما غنائم الخرطوم فتم تهريب جزء كبير منها، ووزعت المنازل الفاخرة بين الأمراء، بينما احتل المهدي وعبدالله ود تورشين البيوت المخصصة لهم دون أسى. ثم خاطب المهدي أتباعه واصفاً ما حل بالخرطوم بأنه عقاب من الله على سكان المدينة المنكرين. ورغم نقل سلاطين لهذه الرواية، نراه هو نفسه لاحقاً يفسر مجاعة ضربت البلاد في عهد الخليفة بأنها كانت عقاباً إلهياً كذلك!
كان القهر والقتل والتعذيب مظهراً مصاحباً للدولة المهدية. فقد حدث ذلك في الأبيض، التي بعد سقوطها “تم تفتيش النساء تفتيشاً منفراً”، ومورس التعذيب بغاية الوحشية حتى يقرب المساكين عن أماكن كنوزهم. وحدث في عهد الخليفة عبدالله ود تورشين بعد وفاة المهدي، عندما استسلمت حامية كسلا، وتم إرسال عدد من سكانها إليه، ومن بينهم الشابات الجميلات وبنات رجال الدولة السابقين، حيث احتفظ الخليفة عبدالله ببعضهن ووزع الأخريات على أمرائه.
لم يعش المهدي طويلاً بعد سقوط الخرطوم، وتوفي بعد حوالي خمسة أشهر بحمى التيفوس، وفق رواية سلاطين، وهي رواية تفند دسائس القول إنه مات مسموماً. بعد وفاته أُعلن أن المهدي فارق الحياة طوعاً شوقاً للقاء الله. ولذلك هزّ صراخ النساء وعويلهن المدينة كلها. على الرغم من أن المهدي كان قد أخبرهم مراراً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجّهه لفتح مكة والمدينة وبيت المقدس، وأنه سيموت في الكوفة، جاء الموت بعيدًا عن ذلك كله.
عهد ود تورشين
بموت المهدي، دخل السودان عهداً جديداً حالك السواد بقيادة عبدالله ود تورشين، حيث اشتدت حالة القمع وأحكمت القبضة الحديدية على رقاب الناس. أرسل عبدالله ود تورشين مبعوثيه إلى قبائل عرب غرب السودان يدعوهم إلى الحج إلى قبر المهدي والهجرة إلى وادي النيل، مغرياً إياهم بامتلاك الأرض والماشية والعبيد. وأصبح أهل تلك القبائل سادة البلاد وشغلوا كل الوظائف الهامة، بينما عانى السكان الأصليون إقصاءً وقهراً. أُضعفت القبائل النيلية، وأُرسلت مجموعات كبيرة منهم إلى دارفور والقلابات أملاً في إبادتهم، حسب سلاطين. أما سكان الجزيرة فقد تم تهجير كثيرين منهم قسراً أو تم توزيع أراضيهم الزراعية على القادمين الجدد، بينما اضطُر الملاك الأصليون للعمل كخدم عند سادتهم.
بذلك تقلصت أراضي الجزيرة البرّاقة والخصبة – وفق وصف سلاطين – إلى نصف مساحتها السابقة، وصودرت ممتلكات أهلها. ولم يكن مشروع الجزيرة الزراعي قد أُنشئ بعد وقتذاك.
لقد كان القمع وإذلال الناس ملازماً لفترة المهدية والعهد الذي تلاها، لكنه لم يُوثق بالشكل الكافي في تاريخ السودان، ولم تخصص له متاحف ولا أيام تذكار وتأمل كما حدث في مجتمعات أخرى مرّت بتجارب مماثلة.
وهكذا تتكرر المآسي في تاريخ السودان، وتتبدل الأسماء والعناوين ويبقى الألم واحدًا، يسطره التاريخ في سطورٍ قد يقرؤها البعض، وقد يغفل عنها آخرون.
إعداد وتحرير: [الاستاذ : الوليد محمد الأمين ]
المصادر: مذكرات سلاطين باشا، مصادر التاريخ السوداني الحديثة.