في واحدة من أوضح حالات الازدواجية المعيارية في التاريخ السوداني المعاصر، يتبنى أبناء دارفور موقفين متناقضين تماماً من نظام الحواكير حسب الموقع الجغرافي ومصلحتهم المباشرة. ففي الوقت الذي يعتبرون فيه الحواكير في دارفور “نظاماً مقدساً” لا يقبل المساس أو التفاوض، ويخوضون حروباً طاحنة للدفاع عنه، نجدهم يرفضون الاعتراف بأي نظام مماثل في باقي أنحاء السودان، بل ويستخدمون شعارات “المواطنة” و**”المساواة”** كأدوات ابتزاز لفرض وجودهم واستيطانهم في إقليم النهر والبحر تحديداً.
هذا التناقض ليس مجرد “اختلاف في وجهات النظر”، بل استراتيجية ممنهجة تهدف إلى الاستيلاء على أغنى وأخصب مناطق السودان من أصحابها الأصليين، مستغلين في ذلك ضعف الدولة وسذاجة أهل المنطقة وحسن نيتهم.
نظام الحواكير: مقدس في دارفور، ملعون خارجها
في دارفور: الحواكير خط أحمر لا يُمس
عندما يتعلق الأمر بدارفور، يتحول أبناء الإقليم إلى “حراس مقدسات” لا يقبلون أي نقاش حول نظام الحواكير:
- “الحواكير إرث تاريخي مقدس” يعود لمئات السنين ولا يمكن تغييره
- “نحن أصحاب الأرض الأصليون” ولا يحق لأي وافد المساس بحقوقنا التاريخية
- “من يريد العيش في دارفور عليه احترام نظامنا” أو الرحيل
- “لا مساومة على الحواكير” حتى لو أدى ذلك لحرب أبدية
- “أي محاولة لتفكيك الحواكير هي محاولة لمحو هويتنا”
هذا الموقف الصارم أدى إلى حروب دامية استمرت عقوداً، راح ضحيتها مئات الآلاف، كلها دفاعاً عن “قدسية” نظام الحواكير. ولا يزال أبناء دارفور مستعدين لخوض المزيد من الحروب للحفاظ على هذا النظام “المقدس”.
خارج دارفور: الحواكير نظام رجعي يجب إلغاؤه
لكن بمجرد أن يعبر نفس الشخص حدود دارفور متجهاً إلى إقليم النهر والبحر، تنقلب المعايير رأساً على عقب:
- “الحواكير نظام قبلي بالٍ” لا مكان له في السودان الحديث
- “السودان وطن واحد للجميع” ولا يحق لأحد احتكار الأرض
- “المواطنة تعطينا حق الاستيطان” في أي مكان نختاره
- “رفض استيطاننا عنصرية” وتمييز ضد المواطنين السودانيين
- “نحن نبني السودان الموحد” بينما أنتم تكرسون القبلية
المثال الصارخ: نفس الشخص، معايير متضاربة
تخيل مواطناً دارفورياً يقتل ويُقتل دفاعاً عن حاكورته في دارفور ضد “الوافدين العرب”، ثم يسافر إلى مدني ويستولي على أرض زراعية مملوكة لأسرة منذ قرون، ويبرر ذلك بأن “السودان للجميع”! أو تاجراً يطرد التجار “الجلابة” من سوق الفاشر بحجة أنها “سوق دارفورية”، ثم يذهب لسوق الخرطوم ويطالب بحقه في التجارة كـ**”مواطن سوداني”**!
ابتزاز إقليم النهر والبحر بسلاح المواطنة
استغلال مفهوم المواطنة كأداة احتلال
الأخطر من التناقض نفسه هو الاستغلال الممنهج لمفاهيم نبيلة مثل المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان كأدوات لتحقيق أهداف استيطانية توسعية:
“المواطنة المتساوية” تُستخدم لـ:
- تبرير الاستيلاء على أراضي الغير
- رفض الخضوع للنظم المحلية التقليدية
- المطالبة بحصص في الثروة دون مساهمة
“حقوق الإنسان” تُستخدم لـ:
- منع إزالة العشوائيات المخالفة
- تبرير السرقة والنهب بحجة الفقر
- اتهام أي مقاومة بالعنصرية
“الوحدة الوطنية” تُستخدم لـ:
- إسكات أي صوت يعترض على الاستيطان
- اتهام المدافعين عن حقوقهم بالانفصالية
- فرض الأمر الواقع بالقوة
التناقض الفاضح: حقوق بلا واجبات
المفارقة الصارخة أن نفس الأشخاص الذين يطالبون بكل حقوق المواطنة في إقليم النهر والبحر، يرفضون الالتزام بأي من واجباتها:
- يطالبون بالخدمات لكنهم يرفضون دفع الضرائب
- يطالبون بالتوظيف لكنهم يرفضون الخضوع للقوانين
- يطالبون بالتمثيل السياسي لكنهم يرفضون قبول سلطة الدولة
- يطالبون بالأمن لكنهم يحمون المجرمين في مناطقهم
هذه المعادلة المختلة – الحقوق بلا واجبات – تكشف أن الهدف ليس الاندماج في المجتمع المضيف، بل استغلاله والسيطرة عليه. لا يوجد في أي نظام مواطنة في العالم حقوق دون واجبات، لكن هذا بالضبط ما يطالب به المستوطنون من دارفور في إقليم النهر والبحر.
العشوائيات: أداة الاستيطان الاستراتيجي
خريطة توزيع لا تخطئها العين
تكفي نظرة واحدة إلى خريطة توزيع العشوائيات حول المدن الرئيسية في إقليم النهر والبحر لإدراك أنها ليست “عشوائية” بالمرة، بل موزعة بتخطيط استراتيجي محكم:
في الخرطوم:
- العشوائيات تطوق المرافق الحيوية للدولة (المطار، الوزارات، مناطق الجيش)
- تسيطر على مداخل ومخارج العاصمة
- تحاصر الأحياء السكنية الراقية
- تخترق المناطق التجارية الرئيسية
في مدن الجزيرة:
- العشوائيات تحيط بـ مشاريع الري
- تسيطر على قنوات توزيع المياه
- تغزو الأراضي الزراعية الخصبة
- تمسك بـ طرق نقل المحاصيل
هذا التوزيع الاستراتيجي يشبه “الكماشة” التي تحاصر المدن وتخنقها تدريجياً، حتى يصبح من المستحيل إدارتها دون موافقة سكان العشوائيات.
الخطة الممنهجة للاستيلاء على المدن
عملية بناء العشوائيات ليست عفوية أو عشوائية، بل تتبع خطة محكمة:
1. التسلل:
- البدء بمجموعات صغيرة تدعي “العمل المؤقت”
- بناء أكواخ بسيطة تبدو غير دائمة
- الزعم بأنهم “عمال موسميون” سيعودون لدارفور
2. التكاثر:
- جلب الأقارب والأسر بأعداد كبيرة
- رفض العودة بعد انتهاء موسم العمل
- تحويل الأكواخ إلى منازل أكثر ثباتاً
3. التمدد:
- شراء الذمم في البلديات والشرطة
- توسيع العشوائية أفقياً وعمودياً
- منع أي محاولة للإزالة باستخدام العنف الجماعي
4. التمكين:
- تحويل العشوائية إلى كيان سياسي
- المطالبة بـ “تقنين” الأوضاع
- ابتزاز السياسيين المحليين بـ “أصوات الناخبين”
5. السيطرة:
- تحويل العشوائية إلى “دولة داخل الدولة”
- فرض “قانون العشوائية” بدلاً من قانون الدولة
- استخدام العشوائية كـ “قاعدة خلفية” للسيطرة على المدينة
الثمن الباهظ: ماذا يدفع إقليم النهر والبحر؟
الاستنزاف الاقتصادي المنهجي
إقليم النهر والبحر يدفع ثمناً باهظاً لهذا الغزو الديموغرافي:
السرقة المباشرة للثروات:
- نهب المحاصيل من الحقول قبل الحصاد
- تهريب السلع المدعومة إلى أسواق دارفور
- الاستيلاء على الأراضي الزراعية الخصبة
- تدمير البنية التحتية للري والزراعة
التدمير الاقتصادي:
- إفلاس المزارعين المحليين بسبب السرقات
- انهيار الصناعات بسبب المنافسة غير العادلة
- هروب المستثمرين بسبب انعدام الأمان
- استنزاف ميزانيات الخدمات دون مساهمة في التمويل
التدمير الاجتماعي والثقافي
تفكيك النسيج الاجتماعي:
- تغيير التركيبة السكانية في الأحياء التقليدية
- فرض ثقافة الغلبة بدلاً من ثقافة التعايش
- تدمير الأنظمة التقليدية لحل النزاعات
- إجبار السكان الأصليين على الهجرة
إنهاء الخصوصية الثقافية:
- تهميش اللهجات المحلية في مناطقها التاريخية
- اختفاء العادات والتقاليد التي ميزت المنطقة
- فرض أنماط جديدة من السلوك والقيم
- محو الهوية الحضارية لأعرق مناطق السودان
التهديد الأمني والسياسي
التحول إلى بؤر أمنية:
- ارتفاع معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق
- ظهور عصابات منظمة محمية داخل العشوائيات
- استخدام العشوائيات كقواعد للهجوم على المدن
- تهديد المؤسسات الأمنية والعسكرية المحيطة
الابتزاز السياسي:
- التصويت الكتلي في الانتخابات للمرشحين الموالين
- إسقاط أي سياسي يعارض التوسع الاستيطاني
- تعطيل أي قرارات تنظيمية أو تخطيطية
- فرض أجندة سياسية غريبة عن مصالح المنطقة
السؤال المحير: لماذا يصمت أهل النهر والبحر؟
عوامل الصمت القاتل
رغم فداحة ما يحدث، يواجه أهل النهر والبحر هذا الاستيطان العدواني بصمت محير:
الاستكانة المرضية:
- “لن يستطيعوا تغيير المنطقة” (وهم لم يعد له أساس)
- “سنظل الأغلبية دائماً” (رغم التغير الديموغرافي المتسارع)
- “هؤلاء مجرد عمال وفقراء” (رغم أنهم أصبحوا قوة اقتصادية وسياسية)
التخدير الثقافي:
- استغلال “كرم الضيافة” السوداني التقليدي
- استخدام شعارات “الإخوة المسلمين” لكسب التعاطف
- ادعاء “الترابط التاريخي” بين المناطق
الخوف من الاتهام:
- الخشية من اتهامات “العنصرية والجهوية”
- تجنب مواجهة “خطاب حقوق الإنسان”
- الخوف من “الصدام المجتمعي”
الخطر الداهم: نافذة تغلق بسرعة
ما لا يدركه الكثيرون هو أن نافذة إنقاذ إقليم النهر والبحر تكاد تغلق نهائياً:
- بعد 10 سنوات فقط: ستتحول الكثافة السكانية لصالح الوافدين
- بعد 20 عاماً: سيصبح أهل النهر والبحر أقلية في مناطقهم التاريخية
- بعد جيل واحد: ستنتهي السيطرة السياسية والاقتصادية للسكان الأصليين
خاتمة: ضرورة الانفصال – الحل الجذري لنزيف لا يتوقف
في ضوء هذا التناقض المستعصي وازدواجية المعايير الصارخة في التعامل مع الحواكير، يبرز حل واقعي وإن كان صعباً: قيام دولتين منفصلتين – دولة النهر والبحر ودولة دارفور. فبعد عقود من الصراع المحتدم والحروب المتكررة، بات جلياً أن السودان الموحد يعاني من تناقض وجودي عميق في فهم مفهوم الدولة والمواطنة والحقوق.
الانفصال ليس انتصاراً لطرف على آخر، بل اعترافاً واقعياً بأن نظامين متناقضين تماماً لا يمكنهما العيش تحت سقف دولة واحدة. فدارفور تريد الاحتفاظ بنظام الحواكير داخلها بينما ترفض وجوده خارجها، وإقليم النهر والبحر يواجه استنزافاً منهجياً ومحاولات لتغيير هويته وتركيبته الديموغرافية. هذا الوضع المستحيل لن يُنتج سوى دوامة عنف لا تنتهي ودائرة انتقام لا تتوقف.
لقد حان الوقت للاعتراف بأن دولتين مستقرتين، تحترم كل منهما حدود الأخرى وسيادتها، و تتعاملان وفق قواعد واضحة للهجرة والتجارة والعمل، هما أفضل بكثير من دولة واحدة ممزقة تنزف بلا توقف. هذا الحل المؤلم قد يكون أقل تكلفة من استمرار الصراع الأبدي، ويفتح الباب أمام علاقات أكثر صحة وتوازناً بين الشعبين اللذين أرهقتهما حروب لا طائل منها.
الاختيار الآن أصبح واضحاً: إما الاستمرار في إنكار الواقع والتمسك بوهم الوحدة الشكلية التي تخفي صراعاً وجودياً، أو الشجاعة في مواجهة الحقيقة وقبول أن الانفصال المنظم هو الطريق الوحيد لوقف نزيف لن يتوقف بغير ذلك.