شهران من العتمة… والأسباب أعمق من “أعطال فنية”
في مشهد يكاد لا يُصدّق، تعيش الولاية الشمالية أزمة انقطاع مستمر للتيار الكهربائي تجاوزت شهر ونصف الشهر، مع صمت رسمي مطبق وتجاهل غير مبرر من السلطات المركزية. لكن ما يبدو للوهلة الأولى “عطلاً فنياً طويل الأمد” يُخفي وراءه خريطة معقدة من الصراع على الموارد والنفوذ، و تحولات دراماتيكية في توزيع الثروة.
تكمن المفارقة الصارخة في أن هذه الولاية – التي تغرق في الظلام – تحتضن أكبر سد كهرومائي في السودان (سد مروي)، وتنتج أكثر من ثلث إنتاج البلاد من الذهب، وتضخ في خزينة الدولة مليارات الجنيهات عبر المنافذ الحدودية مع مصر. فكيف تعيش منطقة بهذا الثراء في ظلام دامس؟
حاول فريق التحقيق طوال ستة أسابيع الإجابة عن هذا السؤال المحيّر من خلال عشرات المقابلات، وتحليل وثائق غير منشورة، ورصد تحركات مجموعات مسلحة، و تتبع تحويلات مالية. النتائج كانت صادمة: صراع خفي على الذهب بين مجموعات مسلحة، سيطرة فصيل واحد على الوزارات السيادية ذات الصلة بالموارد، موجة نزوح ضخمة بلا دعم، وإعادة توجيه للإيرادات بعيداً عن الولاية المنتجة.
القسم الأول: يوميات الظلام – معاناة متصاعدة
الواقع المرير: أكثر من 40 يوماً بلا كهرباء
“نعود للعصور الوسطى بعد غروب الشمس”، بهذه العبارة وصف أحمد محمد، معلم من مدينة دنقلا، الحياة اليومية في ظل انقطاع التيار الكهربائي المستمر.
تزخر مواقع التواصل الاجتماعي بصور المدن المظلمة ليلاً، حيث تتحول شوارع دنقلا وكريمة وحلفا والدبة إلى مساحات موحشة مع حلول الظلام. معظم الأنشطة اليومية تنتهي مع غروب الشمس، وتبدأ معاناة جديدة مع كل ليلة.
سمية علي، ربة منزل من كريمة، تقول: “لم نعد نستطيع تخزين الطعام في الثلاجات، فنضطر للشراء يومياً بكميات صغيرة. ارتفعت التكاليف، وتضاعفت المعاناة، خاصة مع الحرارة الشديدة التي تميز منطقتنا.”
مأساة القطاع الصحي
كشفت زيارات ميدانية لمستشفيات الولاية عن كارثة صحية حقيقية:
- غسيل الكلى: توقفت ثلاث وحدات من أصل أربع وحدات في الولاية عن العمل بشكل منتظم. تعمل فقط لساعات محدودة وبمواعيد متباعدة.
- أجهزة التنفس الاصطناعي: سُجلت 17 حالة انقطاع للأكسجين في وحدة العناية المركزة بمستشفى دنقلا التعليمي خلال شهر يوليو وحده.
- حفظ الأدوية واللقاحات: فقدت مخازن الأدوية المركزية في الدبة كميات من الأنسولين تكفي 800 مريض لشهر كامل بسبب انقطاع التبريد.
الدكتور ع.م ، استشاري الكلى بمستشفى دنقلا، أكد لفريق التحقيق: “فقدنا أربعة مرضى خلال الشهرين الماضيين بسبب عدم انتظام جلسات الغسيل الكلوي. المولدات لا تعمل بكفاءة بسبب نقص الوقود وارتفاع تكلفته.”
شلل في القطاعات الإنتاجية
أظهر مسح ميداني شمل ثلاث محليات (دنقلا، الدبة، حلفا) أن:
- 82% من المشاريع الزراعية المعتمدة على الري بالمضخات الكهربائية تعمل بأقل من نصف طاقتها
- توقف 217 طاحونة حبوب وورشة حرفية بسبب انقطاع الكهرباء
- خسائر بقيمة 1.2 مليار جنيه سوداني في قطاع الإنتاج الزراعي كل شهر
انقسام طبقي حاد
كشفت الأزمة عن فجوة اجتماعية عميقة:
- 20% فقط من السكان (الأكثر ثراءً) استطاعوا تركيب أنظمة طاقة شمسية أو مولدات خاصة
- 80% يعيشون في ظلام دامس ليلاً، مع ما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وصحية
علي محمود، موظف بنك متقاعد، يقول بمرارة: “منازل المسؤولين مضاءة ليلاً بفضل الطاقة الشمسية التي تكلف 15 مليون جنيه. كيف يشعرون بمعاناتنا وهم لا يعيشونها؟”
القسم الثاني: المفارقات الصارخة – ولاية ثرية وخدمات منهارة
موارد ضخمة تذهب للخزينة المركزية
تمثل الولاية الشمالية شرياناً اقتصادياً حيوياً للسودان من خلال ثلاثة مصادر رئيسية:
1. الذهب:
- تنتج الولاية ما متوسطه 12.5 طن من الذهب سنوياً (35% من إجمالي إنتاج السودان)
- قيمة الإنتاج تتجاوز 980 مليون دولار بأسعار السوق الحالية
2. المنافذ الحدودية:
- إيرادات المنافذ الجمركية مع مصر تقدر بـ 180-220 مليون دولار سنوياً
- رسوم العبور والضرائب تشكل مصدراً مهماً للدخل القومي
3. تحويلات المغتربين:
- 37% من تحويلات المغتربين السودانيين تأتي من أبناء الولاية الشمالية
- تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً
سد مروي: مفارقة الظلام في موطن النور
تبرز أكبر مفارقة في أن سد مروي – أكبر مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية في السودان – يقع في قلب الولاية الشمالية نفسها التي تعيش في ظلام دامس.
المهندس ب. د، الذي عمل سابقاً في هيئة السدود، يوضح: “سد مروي ينتج 700 ميغاواط من الكهرباء في أوقات الذروة، ويمكنه تغذية الولاية الشمالية بأكملها وما حولها. لكن الغريب أن سكان المناطق المحيطة بالسد محرومون من الكهرباء.” التوزيع الحالي لكهرباء سد مروي يتجاهل الولاية الشمالية .
نصيب ضئيل من موازنة التنمية
رغم مساهمتها الكبيرة في خزينة الدولة، تحصل الولاية الشمالية على نسبة ضئيلة من مخصصات التنمية:
- 3% فقط من الميزانية التنموية .
- غياب شبه تام لمشاريع البنية التحتية الجديدة.
- تخصيص ميزانية محدودة للغاية لصيانة شبكات الكهرباء .
لقسم الثالث: تحول خارطة السيطرة على الذهب – مَن يمسك بالمناجم؟
1. انحسار نفوذ “الجنجويد” ودخول حركات دارفور
مع انشغال قوات الدعم السريع بالمعارك في مناطق بعيدة عن الشمال، و بعد انسحابها من مناجم الذهب التي كانت تستحوذ عليها. في المقابل، انتشرت سريعاً مجموعات مسلحة من دارفور في ذات المواقع، مستغلة الفراغ الأمني لاستلام مفاتيح المناجم.
2. “نقطة التحول” في أبريل 2023
شهد منتصف أبريل ما يُعرف محلياً بـ«نقطة التحول»: فقدت شركات مليشيات العطاوة سيطرتها على المناجم لتفسح المجال أمام وصول الحركات المسلحة و فرضت السيطرة. خلال أسابيع ، توسّع حضور هذه المجموعات يتجاوز 80% من مناطق التعدين الأهلي، بما فيها الحفر الرئيسية ومناطق جمع الخام.
3. نظام الإتاوات وشبكة الجبايات
بمجرد ترسيم النفوذ، عمدت المجموعات المسلحة إلى سنّ أعراف مالية صارمة:
- رسم شهري ثابت على كل منقب
- ضريبة وزن على كمية الخام المنتزع
- «رسوم حماية» تُجبي يومياً أو أسبوعياً عن طريق نقاط تفتيش مسلّحة
- تكليف تجار محددين بشراء الذهب بأسعار تقل عن السوق الرسمي
4. سوق المثلث كمركز اقتصادي مظلم
حولت تلك المجموعات سوقاً حدودياً صغيراً إلى مركز رئيسي للعرض والطلب، خاضع بالكامل لإشرافها. صار أي تاجر يمرّ بالسوق يدفع نسبة من كل معاملة، ويُجبر على التعامل مع وسطاء معينين. المنافذ الفرعية للتصدير رُبطت بشبكة تهريب واسعة تمتد إلى دول الجوار.
5. الأرقام قاسية: حجم الخسائر و الإتاوات
- تراجع الذهب المسجل رسمياً بنسبة تزيد على 40% خلال ستة أشهر
- إتاوات تُجمع بنحو 3–4 مليارات جنيه شهرياً
- تهريب يقدَّر بثلاثة أرباع الإنتاج من التعدين التقليدي بعيداً عن أي رقابة
- خسارة مباشرة للخزينة المحلية تصل إلى أكثر من 120 مليون دولار في نصف عام
6. يوم في منجم ذهبي تحت السيطرة
زار فريق التحقيق أحد المواقع المتأثرة، ولاحظ:
- بطاقات تصاريح يطلبها الحراس عند البوابة
- جداول رسمية لأسماء المنقبين وأدواتهم
- جبايات أسبوعية تُدفع نقداً أمام النقاط الرئيسية
- محاولات خجولة لتسجيل الدخول رسمياً تُواجه بالترهيب أو حرمان المعدات
7. شهادات من داخل الأزمة
- عامل تعدين يقول إنه دفع خلال يوم واحد ما يكفيه أسبوعين في الماضي.
- تاجر معدات يشكو من ابتزازٍ يكاد يستنزف رأس ماله.
- منقب يروي كيف غيّر النظام الجديد موازين الربح والخسارة لصالح الجهة المسيطرة.
هذا التحول في خارطة السيطرة على الذهب لم يكن مجرد تبدل فرق أو أعلام، بل إعادة هيكلة كاملة لسلاسل الإنتاج والتسويق والجبايات، حرمَت الولاية من مواردها وحرمت الدولة من عائداتها، ما عمّق نقص الخدمات وأخرج أزمة الكهرباء من خانة «عطل فني» إلى صراع حقيقي على الثروة.

خلاصات التحقيق:
- المفارقة الأساسية: ولاية تنتج ثلث ذهب السودان، وتحتضن سداً كهرومائياً ضخماً، وتدرّ مليارات الدولارات على خزينة الدولة، تعيش في ظلام دامس منذ أكثر من شهرين.
- ما وراء “العطل الفني”: انقطاع الكهرباء ليس مجرد خلل تقني، بل نتيجة مباشرة لصراع معقد على الموارد والنفوذ، وتوزيع غير عادل للإيرادات.
- خريطة الصراع الجديدة: استغلت حركات مسلحة من دارفور انشغال قوات الدعم السريع في مناطق أخرى للسيطرة على مناجم الذهب بالولاية الشمالية، وإنشاء اقتصاد ظل واسع النطاق.
- اقتصاد الإتاوات: تُفرض جبايات غير قانونية على المنقبين والتجار تقدّر بمليارات الجنيهات شهرياً، بينما يُهرّب معظم الإنتاج خارج المنظومة الرسمية.
- التمثيل المؤسسي: سيطرة فصيل مسلح واحد على الوزارات السيادية ذات الصلة بالموارد (المالية، المعادن، الجمارك) أدى إلى إعادة توجيه الإيرادات بعيداً عن الولايات المنتجة.
- نزيف الموارد: خسرت الخزينتان المحلية والمركزية ما يقدر بـ 120-150 مليون دولار في النصف الأول من 2024 نتيجة التهريب والاستيلاء المسلح على المناجم.
- أزمة التهجير: ضاعف تدفق عشرات الآلاف من النازحين من دارفور، دون دعم حكومي كاف، الضغط على البنية التحتية المتهالكة للولاية.
- المعاناة الإنسانية: شلل في القطاع الصحي (وحدات غسيل الكلى، التنفس الصناعي، حفظ الأدوية)، وتوقف الأنشطة الاقتصادية المعتمدة على الكهرباء (الري، الطواحين، الورش)، وانقسام طبقي في القدرة على مواجهة الأزمة.
- غياب الشفافية: الصمت الرسمي وغياب البيانات الحكومية التوضيحية فاقم من حالة الاحتقان وضبابية المشهد وأفقد المواطنين الثقة في المؤسسات.
- الصورة الكاملة: أزمة الكهرباء ليست حدثاً منعزلاً، بل مؤشر على خلل هيكلي في نموذج الحكم والتنمية، و تجسيد للصراع بين منطق الدولة ومنطق المجموعات المسلحة.
الخلاصة النهائية: الظلام الذي يعيشه سكان الولاية الشمالية هو ظلام مركب – مادي ومعنوي، تقني وسياسي، مؤقت وهيكلي. إعادة النور إلى المنطقة تتطلب أكثر من إصلاح محطات توليد؛ بل إعادة هيكلة علاقة المركز بالأطراف، و توزيع عادل للموارد، واستعادة سيادة الدولة على الثروات الطبيعية.