المقالات

المركز والهامش: هل نحن حقًا أعداء أم ضحايا خطاب معتل ومريض؟

Dr. Sudanese

هذا الخطاب المسمى بـ “المركز والهامش” يشكل تهديدًا بالغ الخطورة لوحدة السودان، ويُعد السبب الرئيس في تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوداني، مما سيؤدي لا محالة إلى انفصال جديد. التماهي مع هذا الخطاب طوال خمسين عامًا من قبل المثقفين والسياسيين تحت شعار “المظلومية” هو ما أوصل السودان إلى حالته الراهنة. وحتى شخصي الضعيف، لستُ بريئًا من التماهي مع هذا الخطاب في مرحلة ما، أعزوها إلى غياب الاطلاع الدقيق وتوجهاتي الليبرالية، فضلاً عن الحَنق تجاه نظام الإسلاميين وأدبيات جامعة غردون التي تتبنى فكرة العدالة المجتمعية.

‏إذ يعزز هذا الخطاب فكرة أن المجتمعات التي تنتمي إلى “المركز الإسلاموعروبي”، أي مجتمعات الجلابه، بتخومها السياسية الإسلامية أو العلمانية، هي العدو الأساسي والمتسبب الرئيسي في معاناة إنسان الهامش. هذا الخطاب لا يعادي حكومة أو تشريعات بعينها، بل يعادي مجتمعات. ولذلك، استمر الصراع في السودان ولم يتوقف مع تعاقب الحكومات والتوجهات على مدار سبعين عامًا وكان خطاب المركز والهامش متصدرا لادبيات كل هذه الصراعات المتجدده. وكل من يكرر إنه لا توجد مشكلة هوية في السودان فهو مخطئ.

‏لكن إذا تجاوزنا الأسباب الاستعمارية والجغرافية والتاريخية التي أسهمت في التفاوت الاقتصادي والتنموي في السودان، وذهبنا لتحليل أعمق من زاوية الثقافة والمجتمع، سنكتشف أن الواقع لا يتسم بالبساطة التي يروج لها هذا الخطاب. المجتمعات التي تنتمي إلى هذا “المركز المزعوم” لا تتبنى هذه الهوية بدافع الهيمنة أو السيطرة على الآخرين، بل لأنهم يعتبرون الثقافة العربية والإسلامية جزءًا من هويتهم وموروثاتهم، ويرتبطون بها دينيًا وثقافيًا. هذه المجتمعات لا تسعى لفرض سلطتها على الآخرين، بل تتبع مبادئ دينية وثقافية توارثوها عبر الأجيال.

‏أما المجتمعات في “الهامش”، فإن العديد منها أيضًا يحترم الثقافة العربية والإسلامية ويعتبرها جزءًا أساسيًا من هويتها، رغم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. هذا التفاوت في القيمة التي يمنحها المجتمع لثقافة أو هوية معينة يؤدي إلى تفاوت في الفرص، وهو واقع غير واعٍ أو إرادي مرتبط بتاريخ هذه المجتمعات وتجربتها. ولا توجد قوانين محددة في الدستور أو المؤسسات تميز بين الناس. فمثلًا، إذا نظرنا إلى الثقافة الأمريكية، نجد أن حاملي الهوية الأنجلوسكسونية يُمنحون تقييمًا أعلى حتى في مجتمعات الأقليات، كما يُربط النجاح والذكاء في المجتمعات اليهودية أو الآسيوية بالقيم المجتمعية، وليس هناك قانون يفرض ذلك. بل هو نتاج طبيعي لتدافع الثقافات في رقعة جغرافية معينة طالما لم تُسن قوانين تعمق هذا التفاوت أو تميز بناءً على الهوية.

‏لكن بدلاً من البحث عن حلول عادلة وشاملة لمعالجة هذه التفاوتات واستخدام التنافس المفيد بين الثقافات داخل الدولة، تصور بعض المفكرين من الهامش ان الخلاص يكمن في محاربة هذا المركز وهدمه تمامًا. لأن طالما يوجد شخص يتبنى الهوية العربية أو الإسلامية، فإن المجتمعات، وحتى الهامش نفسه، سيمنحون له أولوية وامتيازات على الهويات الأخرى بناء على أسباب تاريخية ودينية يصعب تغييرها عبر التدافع والتنافس الثقافي الطبيعي. ولذلك، طالما أن هذه الهوية الاسلاموعروبيه المهيمنة موجودة وسائدة، فإن إنسان الهامش ومثقفيه سيشعرون دومًا أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وبناء علي هذا الشعور الذاتي (Subjective) بالدونية والهزيمه، تبنوا الحل القائم على الهدم الكامل لهذا المركز ومجتمعاته، محاربة سرديته الثقافية والدينية، نقض موروثاته وتاريخه وتكذيبه، فرض معتقدات جديدة بالقوة على مجتمعات المركز والهامش معًا، ومحاربة المعتقدات الحالية، محاربة لغته، ونزع مقدراته الاقتصادية التي يمكن أن يقاوم بها هذا الطرح.

‏من الضروري أن نعرف أن هذا النوع من الخطاب في مضمونه هو خطاب إبادة ضد المجتمعات التي ينتمي إليها “المركز الإسلاموعروبي”. إنه خطاب عنصري مريض محمول من شخص معتل نفسيا مشحون بالعدوانية لا يسعى للعداله او المساواه بل الي الانتقام والهدم، ولا يقدم أي حلول عملية لمشاكل السودان. لا يعترف هذا الخطاب بتعقيدات الواقع، بل يختزل الصراع في معركة صفريّة تدمر الجميع.

‏المنظرون لهذا الخطاب من “الهامش” لا يطرحون سوى حل مرضي لا يعبر عن العقلانية أو الحكمة بل ينضح بالعقد النفسيه والدونيه. بدلاً من بناء الجسور بين المجتمعات السودانية، يدفعون البلد نحو المزيد من العنف والانقسام. هذا الحل يزرع الكراهية في قلب السودان ويهدد وحدة البلاد. في النهاية، الحل ليس في محاربة ثقافة أو دين معين، بل في بناء مجتمع عادل يعترف بحق الجميع في التعبير عن هويتهم دون إقصاء أو تهميش، ويقوم على الحوار والتفاهم بين جميع مكونات الشعب السوداني.

سوار الذهب النوبي

سوار الذهب, مواطن نهري ، اقتصادي متخصص في الاقتصاد الكلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى