في خضم الصراعات والتحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة، تبرز إشكالية محورية تتعلق القيادة العسكرية ، وليس بالجنود الذين يقدمون أرواحهم على الجبهات. هذه الإشكالية تتمثل في تحول بعض القيادات من استراتيجيين عسكريين إلى لاعبين سياسيين، وما يصاحب ذلك من انحراف عن الرسالة الأساسية للمؤسسة العسكرية.
الفجوة بين القيادة والميدان
بينما يواجه الجندي مخاطر الموت في ساحات المعارك ويقدم التضحيات الجسام، تنشغل بعض القيادات العليا بموضعها السياسي وتأمين مكاسبها الشخصية. هذه المفارقة المؤلمة تخلق فجوة عميقة بين القيادة وقواعدها، وتؤدي إلى تآكل الثقة وإضعاف الروح المعنوية.
السؤال الجوهري هنا: كيف تحولت بعض القيادات العسكرية من قادة ميدان يشاركون مرؤوسيهم التحديات والمخاطر، إلى مسؤولين متهافتين على المناصب والامتيازات، بعيدين كل البعد عن واقع المعارك وتحدياتها؟

تسييس القرار العسكري وتداعياته
إن انخراط قيادات المؤسسة العسكرية في اللعبة السياسية يؤدي حتماً إلى تسييس القرار العسكري. فبدلاً من أن تكون الاعتبارات المهنية والاستراتيجية هي الموجه الأساسي للقرارات، تصبح الحسابات السياسية والمصالح الفئوية هي المتحكمة في اتجاة البوصلة.
هذا التحول يضعف من فعالية المؤسسة العسكرية ويحد من قدرتها على مواجهة التحديات الأمنية، خاصة عندما تتعارض المتطلبات العسكرية مع المصالح السياسية للقيادة.
متلازمة العزلة القيادية
مع تحول القيادات العسكرية إلى نخبة سياسية، تنشأ حالة من العزلة بينها وبين واقع الميدان. فتصبح هذه القيادات أسيرة تقارير منمقة وصور مغلوطة عن الواقع، تقدمها دوائر ضيقة مصلحتها الأساسية هي الحفاظ على رضا القيادة، وليس نقل الصورة الحقيقية مهما كانت قاسية.
هذه العزلة تؤدي إلى اتخاذ قرارات معزولة عن الواقع، غالباً ما تكون مكلفة استراتيجياً وبشرياً، وتزيد من الفجوة بين القيادة والقواعد العسكرية.
التحالفات المرحلية كاستراتيجية بقاء
من السمات البارزة لسلوكك بعض القيادات العسكرية المسيسة هو لجوؤها إلى بناء تحالفات مرحلية مع قوى وحركات مختلفة، بهدف تعزيز موقعها السياسي أو مواجهة تهديدات لنفوذها. هذه التحالفات، رغم أنها قد تحقق مكاسب آنية، إلا أنها غالباً ما تكون على حساب المصلحة الاستراتيجية للدولة والأمن القومي.
الخطورة هنا تكمن في أن هذه التحالفات تخلق شبكة معقدة من الولاءات والالتزامات، تقيد حرية القيادة العسكرية في اتخاذ القرارات المهنية البحتة، وتجعلها رهينة لتوازنات سياسية قد تتعارض مع المتطلبات العسكرية.
القيادة والتطوير المؤسسي
في ظل انشغال القيادات بالشأن السياسي، يتراجع الاهتمام بالتطوير المؤسسي والمهني للقوات المسلحة. فبدلاً من التركيز على تحديث الأسلحة وتطوير العقيدة القتالية وتحسين برامج التدريب، يتم توجيه الموارد والجهود نحو مشاريع ذات طابع سياسي أو ذات مردود إعلامي سريع.هذا الإهمال للجانب المهني والتطوير يضعف من القدرات القتالية للقوات المسلحة، ويجعلها غير قادرة على مواكبة التطورات المتسارعة في مجال الحروب والصراعات المعاصرة.
أزمة الولاء المؤسسي
مع تسييس القيادة العسكرية، يحدث تحول خطير في معايير الترقية والوصول إلى المناصب القيادية. فبدلاً من معايير الكفاءة والخبرة والإنجاز الميداني، تصبح معايير الولاء الشخصي والانتماء السياسي هي المحددة لمن يصل إلى المناصب العليا.هذا التحول يؤدي إلى تهميش الكفاءات الحقيقية وإبعاد القادة الميدانيين الأكفاء عن مواقع صنع القرار، ما يضعف الأداء المؤسسي ويخلق حالة من الإحباط واليأس بين صفوف الضباط والجنود.
متى تعود البوصلة إلى اتجاهها الصحيح؟
إن إعادة توجيه بوصلة القيادة العسكرية نحو مهمتها الأساسية في حماية الوطن وضمان أمنه واستقراره، تتطلب إصلاحاً عميقاً في بنية المؤسسة العسكرية وثقافتها التنظيمية. هذا الإصلاح يجب أن يرتكز على:
- فصل المؤسسة العسكرية عن المشهد السياسي، وتكريس مبدأ الاحترافية والحياد السياسي.
- إعادة هيكلة نظام القيادة والترقية، بما يضمن وصول الكفاءات الحقيقية إلى المناصب القيادية.
- تعزيز الشفافية والمساءلة داخل المؤسسة العسكرية، من خلال آليات رقابة فعالة.
- ترسيخ ثقافة تنظيمية تقدر التميز الميداني والإنجاز العملياتي، وليس الولاء السياسي أو الشخصي.
- تطوير برامج تأهيل القيادات العسكرية، بما يضمن تزويدها بالمهارات والمعارف اللازمة للقيادة في بيئة معقدة ومتغيرة.
خاتمة
إن الفجوة بين جندي يضحي بحياته في الميدان وقيادة منشغلة بالمكاسب السياسية والشخصية، تمثل أحد أخطر التحديات التي تواجه المؤسسات العسكرية . هذه الفجوة لا تؤدي فقط إلى إضعاف القدرات القتالية، بل تهدد التماسك المؤسسي للقوات المسلحة وتقوض ثقة المجتمع فيها.إن استعادة روح المهنية والاحترافية في قيادة المؤسسة العسكرية ليست ترفاً، بل هي ضرورة وطنية ملحة، تتطلب مراجعة نقدية شجاعة الممارسات السائدة، وإرادة حقيقية للإصلاح والتغيير. فقط حينها يمكن للقيادة العسكرية أن تكون على مستوى التضحيات التي يقدمها الجنود في ساحات المعارك، وأن تكون جديرة بثقة الشعب واحترامه.