يشكل تطور الحركة الإسلامية في السودان نموذجاً فريداً يستحق الدراسة المتأنية، خاصة بعد التحولات الدراماتيكية التي شهدتها البلاد منذ 2018. تقدم هذه الورقة تحليلاً نقدياً لمسار هذه الحركة، أسباب تراجعها، وآفاق مستقبلها في المشهد السياسي السوداني والإقليمي.
أولاً: تفكك النموذج وأسبابه
1. فشل التكيف مع متطلبات العصر
أظهرت أحداث ديسمبر 2018 هشاشة بنية الحركة الإسلامية وعجزها عن مواكبة التحولات التكنولوجية والاجتماعية. فبحسب المعطيات، تمت الإطاحة بنظام استمر لعقود بتكلفة زهيدة نسبياً (5 مليون دولار) عبر حملات إعلامية منظمة ونشاط مدني، مما يعكس:
- قصوراً استراتيجياً في فهم آليات التأثير الجديدة
- عدم استيعاب قوة وسائل التواصل الاجتماعي كمحرك سياسي
- انفصالاً عن تطلعات الأجيال الجديدة وهمومها
2. الانقسامات الداخلية والفشل التنظيمي
بعد سقوط النظام، ظهرت انقسامات حادة داخل الحركة الإسلامية:
- مجموعة انحازت لاعتبارات قبلية بحتة
- شريحة شبابية انخرطت مع الجيش بدوافع وطنية دون ارتباط تنظيمي
- قيادات تاريخية تحاول استثمار مواقف الشباب للإيحاء باستمرار التأثير التنظيمي
هذا التشظي يعكس أزمة هوية وانعدام استراتيجية موحدة للتعامل مع الواقع الجديد.
ثانياً: المعضلة الحالية – بين العمى الأيديولوجي والعجز السياسي
تواجه الحركة الإسلامية معضلة مركبة:
1. الإقصاء الإقليمي والدولي
- رفض واضح من القوى الإقليمية المؤثرة
- خسارة الغطاء السياسي الخارجي
- وجود في “المنطقة المحرمة” إقليمياً، فلا الداعمون للجيش يريدونهم ولا الداعمون للتمرد يقبلونهم
2. العجز عن قراءة المتغيرات
- استمرار التفكير بعقلية ما قبل 2018
- عدم القدرة على إعادة تموضع واقعية
- الخلط بين الحضور الشعبي المتبقي والنفوذ السياسي الحقيقي
ثالثاً: السيناريوهات المستقبلية المحتملة
باستخدام منهجية التفكير النقدي، يمكن رسم ثلاثة مسارات محتملة:
1. سيناريو التلاشي التدريجي
قد يستمر تآكل الحركة وتفككها إلى مجموعات متناثرة فاقدة للتأثير، خاصة مع:
- تصاعد رفض الإقليم لها
- استمرار النزاع المسلح الذي يعمق الانقسامات
- صعود بدائل سياسية جديدة
2. سيناريو التجديد والمراجعة
قد تتمكن بعض العناصر من إطلاق عملية مراجعة شاملة تؤدي إلى:
- تطوير خطاب جديد يستوعب المتغيرات العالمية
- إعادة تعريف الذات كحركة مدنية ذات مرجعية إسلامية وليس كحركة شمولية
3. سيناريو الانخراط الفردي
قد تتحول الحركة من تنظيم متماسك إلى أفراد يعملون في المجال العام:
- انخراط بعض الشخصيات في مؤسسات الدولة بصفة فردية
- تحول آخرين نحو العمل المدني والمجتمعي
- استمرار نشاط بعضهم في المجال الفكري والثقافي بعيداً عن السياسة المباشرة
الخلاصة والرؤية النقدية
يبدو أن مستقبل الإسلاميين في السودان يعتمد على قدرتهم على تجاوز معضلتين أساسيتين:
- معضلة الرؤية: الخروج من “العمى الأيديولوجي” نحو قراءة واقعية للمتغيرات الإقليمية والدولية واستيعاب حدود القوة والنفوذ.
- معضلة الأدوات: تجاوز “الغباء السياسي” بتطوير أدوات عمل تتناسب مع تحديات القرن الحادي والعشرين وإدراك أن آليات الماضي لم تعد صالحة.
إن رحلة الإسلاميين في السودان تقدم درساً بليغاً حول ضرورة التوازن بين الثبات على المبادئ والمرونة السياسية، وبين الطموح الأيديولوجي والواقعية السياسية. قد يكون المستقبل لصالح تيار إسلامي متجدد يعي هذه الدروس ويتعلم منها، أو قد تشهد الساحة السودانية نهاية حقبة كاملة من العمل السياسي الإسلامي بشكله التقليدي، لتبدأ مرحلة جديدة تتشكل ملامحها وفق معطيات مختلفة تماماً.