ملخص تحليلي متكامل
يمكن فهم المشهد السوداني المعقد عبر تقاطع مستويين من التحليل: مستوى السلوك السياسي لقادة حركات دارفور المسلحة (مناوي وجبريل) ومستوى الإطار القانوني-الأخلاقي الذي يحكم مسؤولياتهم. هذا التقاطع يكشف عن أزمة عميقة في مفهوم المسؤولية وممارستها في سياق الدولة المنهارة.
الازدواجية المؤسسية وانعكاساتها على حدود المسؤولية
التناقض البنيوي: منصبان متعارضان
يجمع كل من مناوي وجبريل بين صفتين متناقضتين:
- الصفة الرسمية: (حاكم إقليم/وزير مالية) تقتضي الالتزام بالقواعد المؤسسية والمسؤولية الوطنية
- الصفة الميليشياوية: (زعيم حركة مسلحة) تتيح العمل خارج الأطر المؤسسية والولاء الفئوي
هذه الازدواجية تسمح بـ:
- المرونة التكتيكية: الاستفادة من مزايا المنصب الرسمي مع الاحتفاظ بحرية الحركة
- المسؤولية الانتقائية: تبني المسؤولية حين تخدم المصالح ونفيها حين تشكل عبئاً
- شرعنة التجاوزات: استخدام الصفة الرسمية لتغطية أنشطة خارج نطاق الشرعية
تقويض مبدأ “حدود المسؤولية”
في نظام قانوني سليم، تكون حدود المسؤولية:
- واضحة المعالم: يعرف المسؤول نطاق صلاحياته وواجباته بدقة
- ملزمة قانونياً: يمكن محاسبة المسؤول على التقصير أو تجاوز الصلاحيات
- متناسبة مع السلطة: قدر المسؤولية يوازي قدر السلطة الممنوحة
لكن النموذج الحالي يقوض هذه المبادئ من خلال:
- التداخل المقصود: عدم الفصل بين الصفة الرسمية والصفة الميليشياوية
- الاستثناء المستمر: استخدام حالة الحرب لتبرير الخروج عن الضوابط المؤسسية
- تفريغ المساءلة: غياب آليات المحاسبة الفعالة داخل منظومة الحكم
الممارسات الفعلية: تفكيك نمط السلوك
من “تمثيل الإقليم” إلى “استغلال الإقليم”
العناصر الأساسية في استراتيجية قادة دارفور:
- الغياب عن الإقليم: عدم زيارة دارفور رغم تعرضها لسيطرة الدعم السريع
- التجنيد الانتقائي: استهداف مناطق الوسط والشمال والشرق لبناء قوة جديدة
- التهجير الموجه: نقل المؤيدين إلى مناطق آمنة وترك بقية السكان لمصيرهم
- الاستحواذ على الموارد: السعي للسيطرة على موارد خارج دارفور
هذه الممارسات تعكس:
- انتقالاً استراتيجياً: من نموذج “المدافع عن الإقليم” إلى “المستثمر في الأزمة”
- تحولاً في المسؤولية: من مسؤولية محلية محددة إلى طموح وطني غير مقيد
- تبدلاً في القاعدة الاجتماعية: من تمثيل مجتمعات دارفور إلى بناء شبكات ولاء جديدة
التحالف المصلحي مع الجيش: شراكة بلا مساءلة
طبيعة العلاقة مع الجيش تكشف عن:
- تقاسم مصلحي للنفوذ: الجيش في العاصمة والمناطق المركزية، والحركات في مناطق محددة
- انتقائية المواجهة: الدعم اللوجستي والسياسي دون المشاركة الفعلية في المعارك الرئيسية
- تعليق المساءلة المتبادلة: كل طرف يغض الطرف عن تجاوزات الآخر لضمان استمرار التحالف
تحليل الإشكالية القانونية والأخلاقية
تضارب المسؤوليات وتنازعها
نشهد نموذجاً متطرفاً لتضارب المسؤوليات:
- المسؤولية تجاه الدولة: كمسؤولين رسميين (متجاهلة عملياً)
- المسؤولية تجاه الحركة: كقادة تنظيم مسلح (ذات أولوية)
- المسؤولية تجاه المجتمع: كممثلين لمكون اجتماعي (انتقائية ومشروطة)
- المسؤولية الدولية: كأطراف في نزاع مسلح ملزمين بالقانون الإنساني (متجاهلة غالباً)
إفراغ مفهوم المسؤولية القانونية من محتواه
ما نراه هو:
- مسؤولية بلا محاسبة: لا توجد آليات فعالة لمساءلة المسؤولين
- سلطة بلا رقابة: ممارسة صلاحيات واسعة دون ضوابط مؤسسية
- امتيازات بلا التزامات: التمتع بمزايا المنصب دون تحمل أعبائه
المقاربة المقارنة: نموذج متكرر في سياقات الدولة الهشة
يمكن مقارنة هذا النمط بنماذج مشابهة في:
- لبنان: قادة ميليشيات تحولوا إلى سياسيين مع احتفاظهم بقواعدهم المسلحة
- العراق: زعامات طائفية تجمع بين المناصب الرسمية والنفوذ المسلح
- الصومال: أمراء حرب يتنقلون بين شرعية الدولة وقوة السلاح
المشترك بين هذه التجارب:
- تآكل مفهوم الدولة: إضعاف المؤسسات الوطنية لصالح مراكز قوى موازية
- تسييس المسؤولية: تحويل المسؤولية من واجب قانوني إلى أداة سياسية
- انتقائية المساءلة: تطبيق المساءلة على الخصوم وإعفاء الحلفاء
الاستنتاجات والآفاق المستقبلية
إشكالية “مأسسة اللامسؤولية”
ما نشهده في السودان ليس مجرد انتهاك لحدود المسؤولية، بل تأسيس لنظام حكم قائم على:
- الولاء بدل المؤسسة: العلاقات الشخصية كبديل للضوابط المؤسسية
- السيطرة بدل الحكم: استخدام السلطة للتحكم بالموارد لا لخدمة المواطنين
- الهوية بدل المواطنة: الانتماء للمكون/القائد كشرط للحماية والامتيازات
نحو إعادة تعريف المسؤولية في سياق ما بعد النزاع
أي حل مستدام للأزمة السودانية يتطلب معالجة جذرية لمعضلة المسؤولية من خلال:
- ضبط الازدواجية: الفصل القاطع بين المناصب المدنية والسيطرة العسكرية
- إعادة بناء المساءلة: تأسيس آليات محاسبة فعالة ومستقلة
- تعزيز الشفافية: وضوح حدود المسؤولية ونطاقها لكل منصب
- تحييد المؤسسات السيادية: إخراج مؤسسات الدولة من دائرة الصراع السياسي
خلاصة: المسؤولية كمدخل لفهم الأزمة
ما كشفته تحركات قادة دارفور هو اختلال عميق في مفهوم المسؤولية وحدودها – وهي النقطة التي بدأنا منها النقاش. فالمشكلة ليست مجرد وجود “مسؤولية محدودة” (Limited Liability) بالمعنى القانوني، بل اختفاء المسؤولية تماماً في بعض الجوانب وتضخمها بشكل غير منضبط في جوانب أخرى.
نموذج “القائد المسلح/المسؤول الرسمي” الذي يمثله مناوي وجبريل هو تجسيد لنظام سياسي هجين يجمع بين أسوأ خصائص الدولة الحديثة (البيروقراطية والاستئثار) وأسوأ خصائص “ما قبل الدولة” (الولاءات الضيقة والعنف المنفلت)، دون أن يلتزم بالمسؤوليات المصاحبة لأي منهما.
هذا النمط من إدارة شؤون الدولة لا يمثل فقط انعكاساً لأزمة الدولة الراهنة، بل يؤسس لاستمرار دورات العنف والانقسام في المستقبل. والحل يبدأ من إعادة الاعتبار لمفهوم المسؤولية بأبعاده القانونية والسياسية والأخلاقية، كأساس لأي عقد اجتماعي جديد يمكن أن ينهض بالسودان.