كان بعض هؤلاء المؤرخين من المؤمنين بالمهدية نفسها، ليس كعقيدة دينية ولكن على الأقل كتيار وطني، أو كما حاول نسل المهدي وأسرته طرح أنفسهم بعد ذلك في الساحة السياسية السودانية بتكوين حزب الأمة، والذي سموه حزب الأمة القومي. استمر هذا النهج من تزييف التاريخ وتذوقيه واستخدمت فيه أدوات الدولة، الدولة التي يتهمها كل من رفع السلاح في السودان بتهميشه وباستئثار الجلابة والشماليين على وجه العموم بها وبخيراتها. فى المقابل قاموا باخفاء جرائم عبدالله التعايشي ود تورشين فى حق الشعوب التي يزعمون انهم يمثلونها .
تواطؤ حزب الامة
إنه لمن المحير كيف أن هؤلاء الشماليين فرضوا في المناهج الدراسية وفي مقررات التاريخ بالذات، دولة يوتوبية متخيلة وأبطالا قوميين من ذات الجهات التي تناصبهم العداء. ومسألة المناهج الدراسية هذه بالذات فيما خص تاريخ المهدية دار حولها لغط واتهامات لمن كان بيدهم القلم يوما ما في ذلك الشأن. قد يفسر البعض ذلك بما قلناه أعلاه من سعيهم لصناعة الأمة، فلا يُتخيل والحال كذلك عرض الصورة الحقيقية للمهدية وقادتها، وهذه المسألة ليست بدعا لدى السودانيين، فغالب الشعوب تمجد أبطالا تتم صناعتهم بالتغاضي عن النقاط المظلمة في سيرتهم، ولكن الحال هنا مختلف، إذ تم التغاضي عن ظلامات الشعوب المقهورة التي عانت ما عانت من المهدية ودولتها.
كذلك من المهم الإشارة إلى أن ما عاناه الشماليون عموما من بطش عبدالله التعايشي ود تورشين وجماعاته وحواضنه الإثنية، كان دافعا مهما في ترحيب هذه الجماعات المقهورة بقوة السلاح وبالبطش الذي قل مثيله في التاريخ المعاصر، ترحيبها بسقوط عبد الله ود تورشين ودولته، حتى وإن كان ذلك على يد الإنجليز. من سخرية الأقدار أن تجد اليوم في السودان من يصف من يتحدث عمن رحبوا بقضاء الإنجليز على دولة عبد الله ود تورشين بعدما فعلته بهم بأنهم ساندوا الاستعمار! وفي الحقيقة فالمهدية نفسها بطريقة أو بأخرى كانت استعمارا للسودان القديم، أي السودان قبل ضم دارفور بواسطة الاستعمار، فالمهدية أسقطت الخرطوم في 1885 بقوات عمادها الأساس من دارفور، بينما دارفور نفسها لم تكن ضمن حدود السودان إلا في نحو العام 1874 حين ضمها الزبير باشا لصالح الخلافة التركية فصارت ضمن السودان لفترة محدودة تصادف أن ظهرت فيها الحركة المهدية والقصة بعد ذلك معروفة.
شاهد
ومن التاريخ غير المذكور في الكتاب، أن سلطان دارفور عاد إلى مديريته القديمة التي كان حاكما لها، وكان ذلك في العام 1901، ولكم كان مبعوثا من وينجت باشا هذه المرة للتفاهم مع سلطانها علي دينار للاعتراف بالحكم الجديد في الخرطوم. ولكن علي دينار رفض استقبال سلطان أو حتى مجرد دخوله للفاشر، فرجع للخرطوم حسيرا. وقد كان سلطان من أنصار ترك علي دينار ما ترك الخرطوم في حكمها الجديد وشأنها، وقاوم دعوات من أراد ضم دارفور للسودان . لكن ذلك موضع آخر فيه من التقاطعات ما فيه وليس هذا مكانه.
من هؤلاء
الشاهد هنا أن قوات عبد الله ود تورشين التعايشي بهذا المنطق هي ذاتها قوات غازية بالنسبة لسكان وادي النيل وشرق السودان في القضارف وكسلا والقلابات، فهم ليسوا جزء من هذه الشعوب ولا علاقة لهم بهذه الجغرافيا التي غزوه ا. وثمة أبيات تنسب لشاعر الدوبيت الكبير الحاردلو يتحدث فيها عن جنود المهدية وغربتهم عنهم بقوله:
ناسا قباح من دار غرب يوم جونا ,,,جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا,,, أولاد ناسا عزاز متل الكلاب سوونا ,,,يا يابا النقس ويا الانجليز ألفونا
من الثابت والمعروف والمدوّن في تاريخ دولة عبدالله التعايشي ود تورشين ارتيابه في سكان وادي النيل وتحذيره منهم، فهو بالتالي كان مدركا لرفضهم له واعتبارهم له غريبا عنهم.
وفي ذلك يقول سلطان إنه من المعروف أن “أولاد البلد”، كما سماهم، وخاصة “البرابرة والجعليين وسكان الجزيرة”، لم يحبذوا مجيء عبد الله ود تورشين وقبائل الغرب إليهم، حيث أنهم، والكلام لسلطان” يختلفون عنهم تماما سلوكا وطبعا وفكرا”. وفي ذلك يقول عن الجعليين مثلا بأنهم “ربما كانوا أكثر قبائل السودان تمسكا بالفضائل”، وفي موضع آخر يصفهم بأنهم “أكثر قبائل السودان استقلالية واعتدادا بالنفس.” ويقول إن عبد الله ود تورشين كان بالذات “يكره الجعليين ويخشاهم في نفس الوقت، وبالذات الذين يسكنون بين حجر العسل وبربر على ضفة النيل، فهم العرب الوحيدون تقريبا في السودان الذين لهم حياة أسرية منظمة جدا ويتميزون بأخلاق عالية تتيح لهم وجودا مريحا وصحيا”.
هل يمكن أن يكون هناك تفسير آخر لتشويه التاريخ في السودان؟