المقالات

الصمت العقابي ضد مواطن الولاية الشمالية: سلب الثروات وحرمان الخدمات

في عمق الولاية الشمالية السودانية، تتجلى ظاهرة “الصمت العقابي” بأوضح صورها – تلك السياسة المتعمدة التي تمارسها السلطات من خلال تجاهل المطالب والشكاوى والأزمات بشكل منهجي، كوسيلة للضغط والعقاب ضد مجموعة محددة من المواطنين. هذا الصمت ليس غياباً عفوياً للاستجابة، بل استراتيجية سلطوية مقصودة تهدف إلى إشعار المواطنين بالعجز والإهمال، وكسر إرادتهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة.

يقف مواطن الولاية الشمالية اليوم حائراً على ضفاف النيل، يتأمل سد مروي الضخم الذي ينتج الكهرباء لمناطق بعيدة، بينما يعيش هو وأهله في ظلام دامس منذ أكثر من شهرين. المفارقة المؤلمة أن هذا المواطن يسير يومياً فوق أرض تختزن ذهباً، ويشرب من نهر يولّد الطاقة، ويدفع ضرائب تملأ خزائن الدولة، لكنه يجد نفسه مستبعداً من التنمية ومحروماً من أبسط حقوقه، في ظل صمت رسمي مطبق يرفض حتى الاعتراف بمعاناته.

تجليات الصمت العقابي: أكثر من مجرد غياب للتواصل

لم يكن انقطاع الكهرباء المستمر لأكثر من شهرين في الولاية الشمالية مجرد “عطل فني” يحتاج إلى إصلاح، بل هو تجسيد حي لسياسة الصمت العقابي. فرغم حجم الكارثة وتأثيرها على الصحة والتعليم والإنتاج ومختلف مناحي الحياة، لم تصدر أي جهة رسمية بياناً يوضح أسباب الانقطاع أو يحدد موعداً للحل أو حتى يعترف بوجود المشكلة من الأساس.

هذا النمط من التجاهل المتعمد يحمل رسالة ضمنية قاسية: “مطالبكم غير مهمة، معاناتكم غير جديرة بالاهتمام، وجودكم هامشي في حسابات الدولة”. إنها وسيلة للسيطرة تهدف إلى تدجين المواطنين وتعويدهم على قبول الواقع المرير دون احتجاج.

نهب الموارد: معادلة استغلال صارخة

يعيش مواطن الولاية الشمالية فوق ثروات هائلة تتناقض بشكل صارخ مع مستوى الخدمات التي يتلقاها:

  1. الذهب: تنتج الولاية ثلث إنتاج السودان من الذهب (نحو 12.5 طن سنوياً)، لكن عائداته تذهب إلى جيوب الحركات المسلحة التي استولت على المناجم وإلى خزينة مركزية لا تعيد استثمار هذه الأموال في تنمية المنطقة.
  2. سد مروي: أكبر مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية في السودان يقع في قلب الولاية، ومع ذلك لا يحصل سكان المنطقة المحيطة به على نصيبهم العادل من الكهرباء التي ينتجها.
  3. المنافذ الحدودية: تدر رسوماً وعائدات جمركية تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، يذهب معظمها إلى المركز ومجموعات النفوذ.
  4. تحويلات المغتربين: يشكل أبناء الولاية الشمالية نسبة كبيرة من مغتربي السودان الذين يرسلون مليارات الدولارات سنوياً، تستفيد منها الدولة دون أن تنعكس على مستوى الخدمات في الولاية.

المعادلة بسيطة وقاسية: استنزاف موارد المنطقة وحرمان أهلها من عائداتها. نموذج استعماري داخلي يتعامل مع الولاية كمستعمرة للموارد فقط، ويعزز هذا النموذج بسياسة الصمت العقابي لمنع أي مساءلة أو احتجاج.

تغيير خارطة النفوذ: من مستغل إلى آخر

استغلت مجموعات حركات دارفور المسلحة خروج (الجنجويد ) ، لتبسط سيطرتها على مناجم الذهب في الولاية الشمالية. لم يتغير الواقع بالنسبة للمواطن العادي – فقط تبدل المستفيد من ثرواته.

فرضت هذه المجموعات نظام إتاوات محكماً: رسوم على التنقيب، ضرائب على الإنتاج، إجبار على البيع لتجار محددين بأسعار أقل من السوق. جميعها تذهب إلى جيوب خاصة بعيداً عن أي رقابة أو مساءلة.

بالتوازي، سيطرت ذات الحركات على وزارات سيادية رئيسية في الحكومة المركزية (المالية، المعادن، الجمارك، الضرائب)، مما مكّنها من السيطرة على حركة الموارد والإيرادات وإعادة توجيهها بعيداً عن احتياجات الولاية الأصلية.

سياسة تفريغ: عبء النزوح دون دعم

لم تكتف السلطات بحرمان مواطن الولاية الشمالية من موارده، بل أضافت عبئاً جديداً: توجيه موجات النزوح من دارفور إلى الولاية الشمالية دون تأمين معسكرات نظامية أو تقديم دعم حكومي كافٍ.

وصل نحو 68,000 نازح ولاجئ إلى الولاية منذ بداية 2025، ليزيدوا الضغط على البنية التحتية المتهالكة أصلاً. المشكلة ليست في وجود النازحين أنفسهم، بل في غياب أي خطة حكومية لاستيعابهم ودعمهم، مما خلق تنافساً على الموارد الشحيحة وزاد من معاناة الجميع.

الانقسام الطبقي: من يستطيع التكيف ومن لا يستطيع

كشفت أزمة الكهرباء عن انقسام طبقي حاد:

  • 20% من السكان استطاعوا تركيب أنظمة طاقة شمسية أو مولدات خاصة
  • 80% يعيشون في ظلام دامس ليلاً، مع ما يترتب على ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وصحية

المفارقة المرة أن معظم المسؤولين ينتمون للفئة الأولى، فكيف سيشعرون بمعاناة من يعيشون في الظلام وهم ينعمون بالإضاءة والتكييف في منازلهم؟ وكيف سيكسرون حاجز الصمت العقابي وهم غير متضررين شخصياً من الأزمة؟

خلاصة: عندما يصبح الصمت سلاحاً ضد المواطن

ما يعانيه مواطن الولاية الشمالية هو نموذج صارخ لتضافر الظلم البنيوي مع الصمت العقابي: تستنزف أرضه، وتُسرق موارده، ويُحرم من حقوقه الأساسية، ثم يُعاقب بالصمت والتجاهل إذا طالب بها.

المطلوب ليس مجرد إصلاح محطات كهرباء أو توفير وقود للمولدات، بل كسر جدار الصمت العقابي أولاً، وإعادة هيكلة شاملة للعلاقة بين المركز والأطراف، وتوزيع عادل للموارد، واستعادة سيادة الدولة على الثروات الطبيعية، ومشاركة حقيقية للمواطنين في إدارة مواردهم و تخطيط مستقبلهم.

الظلام الذي يعيشه مواطنو الولاية الشمالية ليس مجرد انقطاع للكهرباء، بل هو ظلام مركب – مادي بانعدام الضوء، وسياسي بالصمت العقابي، واقتصادي بنهب الموارد، واجتماعي بتعميق الانقسامات. والنور لن يعود إلا بإنهاء سياسات التهميش والاستغلال والصمت، وبناء نموذج تنموي عادل يضمن حصول كل مواطن على نصيب متساوٍ من ثروات وطنه وعلى حقه في المساءلة والتواصل.

سوار الذهب النوبي

سوار الذهب, مواطن نهري ، اقتصادي متخصص في الاقتصاد الكلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى