لطالما شكّل تاريخ السودان لوحةً معقدة من الفصول الدامية والأحداث المشوبة بالعنف والظلم، ومن أبرز هذه المآسي ما يمكن وصفه بالتطهير العرقي والمحرقة المنسية التي شهدتها البلاد. ففي فترة المهدية، وبفضل سياسات قاسية اتبعتها قادة ذلك العصر، قلت أعداد السكان بشكل فادح، حيث قال البعض إن سكان السودان إن لم يتم تطهيرهم عرقيًا لكان عددهم اليوم يقارب 80 مليون نسمة. في هذا المقال سنعرض الوقائع والأرقام والشهادات كما وردت في المصادر البريطانية والتقارير التاريخية، لتترك القرار للقارئ حول اعتبار هذه الأحداث تطهيرًا عرقيًا ولا غيره.
الوقائع والأرقام التاريخية
وفقًا لبعض المصادر التاريخية، قُدِّر عدد سكان السودان قبل المهدية (1881) بنحو 7 إلى 8.5 مليون نسمة، حيث كانت القبائل النيلية مثل الجعيلين، الشايقية، والدناقلة تهيمن على وادي النيل تجاريًا وزراعيًا. لكن بعد المهدية، وعلى مدار ثلاثة عشر عامًا فقط، انخفض عدد السكان إلى 2 إلى 3 مليون نسمة؛ أي أنه يبدو أنه تم القضاء على أكثر من 6 ملايين شخص خلال تلك الفترة العصيبة.
تتفق موسوعة بريتانيكا (1911) على أن:
“قبل الفوضى المهدوية، كان عدد سكان مناطق السودان ما عدا دارفور يقدّر بنحو 8.5 مليون. وبحلول عام 1905، لم يبقَ سوى 1.85 مليون، حيث أُبيد الملايين والجثث ملأت أرض السودان.”
ويضيف السير ريجنالد وينجيت في تقارير المخابرات السودانية (1899):
“ما لا يقل عن ستة ملايين سوداني قُتلوا أو ماتوا بسبب الجوع والطاعون نتيجة الحرب وسوء الحكم الوحشي.”
فرانسيس دينق (1995) يشير إلى أن الفاجعة لم تكن حربًا عادية بل ذبحًا جماعيًا استهدف الأبرياء قبل المقاتلين؛ إذ انخفض عدد السكان إلى النصف تقريبًا وكانت القبائل النيلية من بين الأكثر استهدافًا. وهكذا يبدو أن هذه الأرقام تقدم صورة مروعة عن حجم الدمار الذي حل بأهل السودان في تلك الفترة.
تظهر هذه الارقام أثر الهولوكوست النهري علي مجتمعات النهريين .
الشهادات والتوثيقات التاريخية للهولوكوست النهري
تروي العديد من الشهادات والتقارير عن وحشية الأحداث التي وقعت خلال فترة المهدية، خاصة فيما يتعلق بمجزرة المتمة ومأساة الشايقية. فقد كتب الصحفي البريطاني G.W. Steevens (1898):
“لا يمكنني أن أصف ما رأيته إلا بأنه إبادة؛ كان الأمر كما لو أن المدينة لم توجد قط، كأن سكانها قد محوا من وجه الأرض. كانت رائحة الموت تسكن كل زاوية، في حين كان الصمت المخيف يقطعه أنين الغربان.”
كما وصف ونستون تشرشل (1899) الأحداث بـ:
“لم تكن معركة، ولم تكن حربًا، كانت مذبحة. قتلوا الجعليون كالماشية وسالت دماؤهم في الشوارع، ولم يتبقَ أحد ليبكي الموتى.”
تشير تقارير المخابرات البريطانية التي تمتد من 1898 إلى 1900 إلى أن:
“تم تطويق المتمة بالكامل، وقتل كل رجل قادر على حمل السلاح، بينما اختطفت النساء والأطفال وتم توزيعهم كغنائم حرب.”
أما موسوعة بريتانيكا (1911) فقد وثقت مصير الشايقية قائلة:
“الشايقية، الذين كانوا من أقوى القبائل المقاتلة في السودان، لم يعودوا موجودين ككيان قوي. بحلول عام 1898، تبقّت منهم مجرد حفنة بائسة من العائلات المبعثرة بين الخراب والجوع.”
وفي تقارير أخرى، وصف سير هارولد ماكمايكل (1912) الفاجعة قائلاً:
“الشايقية لم يُهزموا فقط عسكريًا، بل أُبيدوا بالكامل. ما حلّ بهم لم يكن مجرد هزيمة عسكرية، إنه جريمة إبادة شاملة.”
التهجير والعبودية والاقتلاع من الجذور
لم يكن الهولوكوست النهري مقتصرة على القتل المباشر، بل شملت أيضًا عمليات تهجير قسرية واستعباد النساء وإخفاء الرجال في القبور الجماعية. كما ورد في تقارير السير ريجنالد وينجيت (1899):
“هرب السودانيون النيليون – الجعليون، الدناقلة، والشايقية – كأنهم يفرون من الطاعون. مشوا آلاف الأميال إلى مصر وإثيوبيا تاركين خلفهم جثث أحبائهم الذين لم يحتملوا الطريق.”
وأكدت التقارير الإدارية الاستعمارية (1910) وأرشيفات الحكومة البريطانية (1905) أن القبائل النيلية لم تعد كما كانت؛ فقد تعرضت للتصفية وإعادة التوطين بشكل قسري، مما أثر بالغًا على التركيبة السكانية للسودان.
فرانك لويد (1913) في كتابه “الحياة في السودان” وصف محاولات استعادة النظام بعد الدمار قائلاً:
“كان الناس أشبه بالأشباح في أراضيهم؛ القرى التي كانت مأهولة بأسر كثيرة تحولت إلى مساكن لعاجزات ينتظرن عودة رجالهن الذين لم يعودوا قط.”
وفي كتاب “تاريخ العرب في السودان” لهارولد ماكمايكل (1922)، تتضح صورة مؤلمة عن كيفية إعادة توزيع الأراضي واستبدال السكان الأصليين بأتباع النظام الحاكم، ما أدى إلى فقدان هوية القبائل النيلية الأصلية.
هل كان هذا تطهيرًا عرقيًا؟
إذا نظرنا إلى الحقائق الموثقة والتقارير التاريخية، فإن ما حدث للسودان خلال عهد المهدية ليس مجرد نزاع عسكري، بل هو حدث ذا أبعاد إبادة جماعية واعتُبر الهولوكوست النهري بحق أبناء وادي النيل. إذ تُظهر الأرقام والشهادات أن أكثر من 5 ملايين سوداني تم أباؤهم خلال 13 سنة فقط، وأن آلاف النساء قد تم استعبادهن بينما اختفت القبائل النيلية التي كانت تشكل العمود الفقري للتكوين السكاني للمنطقة.
هذا التطهير العرقي لم يؤثر فقط على العدد السكاني، بل أعاد تشكيل الهوية والتركيبة الاجتماعية في السودان إلى الأبد، مما جعل العديد من القبائل النيلية تعيش في الشتات سواء داخل السودان أو خارجه. وقد تبقى آثار هذه الكارثة واضحًة إلى يومنا هذا في المناطق التي كانت مزدهرة قبل المهدية، ولا يزال اللاجئون وأحفادهم يسعون لفهم جذور هويتهم المفقودة.
في الختام، تطرح هذه الوقائع سؤالاً مهمًا لكل قارئ: هل يمكن لمجتمع أن يتعافى من مثل هذه الكارثة؟ وهل يمكن نسيان جريمة بهذا الحجم وتطهير عرقي مستمر، خاصة عندما يُخفى التاريخ وراء روايات سينمائية مغرية؟ يبقى القرار للقارئ الذي يستند إلى الوثائق والمصادر التاريخية الموثوقة.
المصادر:
- السير ريجنالد وينجيت (1899)، تقارير المخابرات السودانية.
- موسوعة بريتانيكا (1911)، قسم السودان.
- جوزيف أوروالدر (1892)، “عشر سنوات في معسكر المهدي”.
- فرانسيس دينق (1995)، “حرب الرؤى”.
- ريم عباس (2023)، “المهدية لا تزال تطارد السودان”.
- هارولد ماكمايكل (1922)، “تاريخ العرب في السودان”.
- أرشيفات الحكومة البريطانية (1905)، تقارير تعداد سكان السودان.
- التقارير الإدارية الاستعمارية (1910)، حكومة السودان.
- فرانك لويد (1913)، “الحياة في السودان”.
- مجلة الأنثروبولوجيا الاستعمارية البريطانية (1925)، دراسة عن التركيبة السكانية في شمال السودان.
2 تعليقات