المقالات

السودان: عندما يصبح الانقسام خياراً عقلانياً للخروج من دوامة الحرب والانهيار

لطالما نُظر إلى فكرة تقسيم الدول على أنها شر مطلق، ونهاية مأساوية لمسيرة وطنية. ومع ذلك، فإن التاريخ الحديث يزخر بنماذج لدول انقسمت، ليس بالضرورة في ظروف مثالية، لكنها نجحت نجاحاً باهراً بعد الانفصال، محققة لشعوبها استقراراً وازدهاراً لم تتمكن من تحقيقه تحت مظلة الدولة الموحدة.

نماذج انقسام ناجحة تثبت أن الانقسام ليس شراً مطلقاً:

  1. تشيكيا وسلوفاكيا: انفصلتا سلمياً عام 1993 بعد عقود من العيش المشترك تحت الحكم الشيوعي. ورغم بعض التحديات الأولية، تمكنت كل دولة من بناء اقتصاد قوي ومستقر، و انضمتا لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتُعدان اليوم من أنجح نماذج الانتقال السلمي والنمو الاقتصادي في أوروبا الوسطى.
  2. سنغافورة: انفصلت عن ماليزيا عام 1965 تحت ظروف متوترة، بل إن الانفصال فُرض عليها نوعاً ما. ورغم كونها دولة صغيرة تفتقر للموارد الطبيعية، تحولت سنغافورة عبر الإدارة الحكيمة والاستثمار في التعليم والبنية التحتية إلى مركز مالي وتجاري عالمي وقصة نجاح اقتصادي فريدة.
  3. النرويج: انفصلت عن السويد عام 1905 سلمياً. وتمكنت النرويج من بناء دولة رفاهية قوية واقتصاد مزدهر يعتمد على مواردها الطبيعية (خاصة النفط) التي أدارتها بحكمة عبر صندوق سيادي للأجيال القادمة، لتصبح واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها استقراراً.

هذه النماذج تثبت أن الانقسام، وإن كان قراراً صعباً ومحاطاً بالمخاطر، يمكن أن يكون مساراً نحو الاستقرار والتنمية عندما تكون الدولة الأم تعاني من عوامل ضعف هيكلية لا يمكن تجاوزها ضمن إطارها الحالي.

في حالة السودان، لا يتعلق الأمر بخيار بين “وحدة مثالية” و”انقسام سيء”، بل بخيار بين “دولة موحدة فاشلة ومدمرة ومنقسمة بالفعل” وبين “محاولة بناء كيانين أو أكثر على أسس جديدة يمكن أن تكون أكثر استقراراً”. إن عوامل ضعف وهشاشة الدولة السودانية وصلت إلى مرحلة تجعل نموذج الدولتين ليس مجرد خيار، بل ضرورة ملحة ومنطقية.

عوامل ضعف وهشاشة الدولة السودانية التي تبرر ضرورة قيام دولتين:

  1. الحرب الحالية وتداعياتها الكارثية التي قضت على الدولة الموحدة:
    تُعد الحرب الأهلية المندلعة منذ أبريل 2023 دليلاً قاطعاً على استحالة استمرار الدولة بشكلها الحالي. هذه الحرب أدت إلى دمار شامل غير مسبوق في البنية التحتية، وخسائر بشرية فادحة، وأكبر أزمة نزوح في العالم، وانهيار اقتصادي ومؤسسي كامل. لقد مزقت الحرب ما تبقى من أواصر الدولة، وجعلت استعادة سلطة مركزية فاعلة أمراً شديد التعقيد، إن لم يكن مستحيلاً. الدمار الذي لحق بالخرطوم وغيرها من المدن لا يمكن إصلاحه بالعودة إلى نفس الإطار الذي أنتج هذه الكارثة.
  2. الانقسام المجتمعي الحاد والتطهير العرقي الذي دمر التعايش:
    أخطر ما أفرزته الحرب الحالية هو الاستقطاب العرقي والقبلي غير المسبوق. لقد شهدت مناطق مثل دارفور والخرطوم جرائم حرب وتطهيراً عرقياً موثقاً، استهدف جماعات على أساس هويتها. هذا العنف المروع لم يخلّف ندوباً جسدية ومادية فحسب، بل مزّق النسيج الاجتماعي ودمر الثقة بين مكونات المجتمع إلى حد أن كثيراً من الأفراد والمجموعات يصرحون باستحالة العيش المشترك مع من ارتكب ضدهم الفظائع. نموذج الدولتين يوفر إطاراً لإعادة بناء الثقة تدريجياً عبر فصل جغرافي وسياسي يسمح للمجتمعات بالتعافي وإعادة بناء ذاتها في بيئتها الخاصة.
  3. النزاعات المسلحة والصراعات القبلية المزمنة التي عجزت الدولة عن حلها:
    قبل الحرب الأخيرة، كان السودان يعاني بالفعل من نزاعات مسلحة مستمرة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، بالإضافة إلى صراعات قبلية متعددة في أجزاء مختلفة من البلاد. هذه النزاعات التاريخية تفاقمت بسبب ضعف الدولة المركزية وعجزها عن بسط سيادة القانون وتوزيع الثروة والسلطة بشكل عادل. إقامة دولتين يمكن أن تمنح كل إقليم القدرة على تطوير آليات محلية لإدارة صراعاته الداخلية ومعالجة جذورها بطريقة تتناسب مع خصوصياته.
  4. ضعف البنية التحتية المزمن الذي يعيق التنمية المتوازنة:
    يعاني السودان من نقص حاد في البنية التحتية الأساسية (طرق، كهرباء، مياه، صحة، تعليم) تفاقم بشكل كارثي بسبب الحرب. هذا الضعف يعيق التنمية ويؤدي إلى تفاوتات هائلة بين المناطق. في إطار دولتين، يصبح حجم التحدي في كل كيان أصغر وأكثر قابلية للإدارة، مما يسمح بوضع خطط تنموية مركزة وموجهة تلبي احتياجات كل منطقة بشكل أفضل وتجذب التمويل اللازم بشكل أكثر فعالية.
  5. المديونية الخارجية المرتفعة التي تخنق الاقتصاد:
    يواجه السودان عبء ديون خارجية ثقيل جداً، يجعل من الصعب جذب الاستثمار أو تمويل مشاريع التنمية الضخمة. عملية الانفصال تفتح عادة باباً لإعادة هيكلة الديون أو شطب جزء منها عند نشوء “خلف قانوني جديد” للدولة الأصلية، كما حدث في نماذج سابقة. هذا يمكن أن يوفر فرصة لكل دولة جديدة للبدء بعبء مالي أقل، مما يسهل مسارها نحو التعافي الاقتصادي.
  6. تراجع مؤشرات التنمية البشرية الذي يعكس فشل الدولة في توفير الخدمات الأساسية:
    يعاني السودان من تراجع مستمر في مؤشرات الصحة والتعليم ومكافحة الفقر. الدولة المركزية الهشة لم تتمكن من توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها بشكل فعال. في إطار دولتين، يمكن لكل كيان التركيز على تطوير سياسات اجتماعية وأنظمة خدمة عامة مصممة خصيصاً لتلبية احتياجات سكانه ومواجهة تحدياته المحددة في مجالات التنمية البشرية، مما يزيد من فرص تحسين حياة المواطنين.
  7. التدخلات الخارجية المعقدة التي تستغل ضعف الدولة المركزية:
    الدولة السودانية الهشة أصبحت ساحة لتنافس قوى إقليمية ودولية ذات مصالح متضاربة، مما يزيد من تعقيد الأزمة ويغذي الصراع. إقامة دولتين قد توزع هذه المصالح، وتمنح كل كيان مرونة أكبر في إدارة علاقاته الخارجية وعقد شراكات تخدم مصالحه بشكل مباشر، بعيداً عن تعقيدات الصراع على السلطة والموارد في إطار دولة موحدة ضعيفة.

الخلاصة:

إن الحديث عن نموذج الدولتين في السودان لا ينطلق من رغبة في التجزئة بحد ذاتها، بل هو قراءة واقعية لحالة الانهيار والتمزق التي وصلت إليها الدولة السودانية، خاصة بعد الحرب الأهلية الحالية. إن الدمار الهائل، والانقسام المجتمعي العميق الذي وصل إلى حد التطهير العرقي، والعجز المزمن للدولة عن حل نزاعاتها وتوفير الخدمات، كلها عوامل تجعل من استعادة دولة موحدة فاعلة أمراً بالغ الصعوبة.

على النقيض من ذلك، تظهر نماذج الانقسام الناجح في التاريخ أن هذا المسار، رغم صعوبته، يمكن أن يكون طريقاً نحو الاستقرار والتنمية عندما تكون الدولة الأم قد استنفدت كل فرص البقاء الموحد المنتج. في حالة السودان، لم يعد الانقسام شراً مطلقاً بالمقارنة مع استمرار الحرب الأهلية والدمار والتطهير العرقي داخل إطار دولة فاشلة. بل قد يكون هو المدخل الواقعي الوحيد لوقف نزيف الدم وبدء عملية إعادة بناء على أسس جديدة، تمنح كل جزء من هذه الأرض المنكوبة فرصة لبناء مستقبل أفضل لشعبه بعيداً عن دائرة العنف والهشاشة المستمرة. يتطلب هذا المسار شجاعة سياسية، ودعماً إقليمياً ودولياً، وقبل كل شيء، رغبة حقيقية من الأطراف السودانية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الوطن المنكوب.

سوار الذهب النوبي

سوار الذهب, مواطن نهري ، اقتصادي متخصص في الاقتصاد الكلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى