مشهد طلاب مقاشي في الولاية الشمالية وهم يواصلون التعليم تحت ظلال النخيل، بعد استهداف متكرر لشبكات الكهرباء من ميلشيات تعتاش على الفوضى والحرب، يعكس عظمة شعب النهر وصلابته في مواجهة التحديات. هم أبناء أجدادهم الذين عمروا الضفاف بالعلم والكفاح، ولا يعرفون اليأس مهما أظلمت الظروف.لذلك يعد الانفصال عن أقليم دارفور الخيار الأكثر أماناً لأجيال النهرين .
لكن المؤلم أكثر هو أن تجد شريحة واسعة من أبناء دارفور – بما يتداولونه من تعليقات شامتة أو مليئة بالحقد – لا تكتفي فقط بالمشاهدة، بل تزداد سعادةً كلما ألمّ ضرر بأهل النهر أو البحر، متذرعين بخطاب “المركز والهامش” الذي روج له دعاة الكراهية وزرعوه في وجدان الناس حتى صار مبرراً للشماتة و للتبرير الإيذاء والاستهداف. يرددون شعارات التهميش و يتغذون على لغة الضحية، يحتفلون ليس بما تحقق لهم من خير، بل بما يفقده غيرهم من استقرار.
ولأن هذا الخطاب العدائي بات يتسلل من الهامش المخذول ليغزو قلب الوطن الآمن، صار من الصعب اليوم إقناع شباب النهر وأسرهم بأن المستقبل في سودان واحد ما زال ممكناً أو حتى مرجواً. كيف يُربّى طفل النهري على التعايش والمحبة، وهو يرى حملات الحقد والتكفير الاجتماعي تنهال عليه لمجرد أنه من ضفة النيل؟
اليوم يجب أن نكون صريحين: استمرار الانصهار القسري في ظل هذه الكراهية الممنهجة لا يبشّر بخير لمستقبل شباب النهر و اجيالهم القادمة. إذا كان ثمن الوحدة الدائمة هو الذل والتعرض الدائم لأذى النفوس الحاقدة، الانفصال الفكري والاجتماعي و السياسي يصبح حقاً مشروعاً وملاذاً آمناً، بل ومطلباً ملحاً لجميع الباحثين عن عافية الذات والكرامة والسلامة لأبنائهم.
ليس هذا الانفصال تهرباً من المسؤولية أو دعوة للكراهية، بل هو خيار استبقاء. هو صيانة الهوية النهرية والأرض والثقافة التي بناها الآباء عبر قرون، وهو حماية لأحلام الأبناء الذين يستحقون بيئة نظيفة من الشماتة، ووطناً لا يزرع في نفوسهم الخوف أو الشعور بالدونية.
إن الوحدة لا تنجح يوم تكون سيفاً مسلطاً على رقاب بعضنا البعض، ولا تستمر حين يتحول جزء من الوطن إلى عدو متربص يشمت في بؤس جاره وينكر عليه أبسط مقومات الحياة الكريمة. فإما وحدةً يسودها الاحترام والسلام، أو انفصالاً يحفظ الكرامة والأمان لجيل النهرين المقبل. والمسؤولية على كل صاحب عقل وقلب في هذا الوطن أن يختار بوصلته.