أحداث تاريخيةالمقالات

مراجعة كتاب السيف والنار: جرائم عبدالله ود تورشين في ذكر ما أخفته الروايات الرسمية الجزء الأول


ولد الضابط النمساوي رودلف أنتون كارل فون سلاطين عام 1857م في فيينا، وبعد أن حصل على تدريب عسكري جيد، شق طريقه إلى مصر ليلتحق بالقوات الأنجلو نمساوية. انطلقت مسيرته الإدارية في السودان في أوائل فبراير 1879م؛ إذ عينّه غردون باشا مفتشاً مالياً في أقل من شهر من وصوله إلى الخرطوم، مع تعليمات بالترحال في البلاد والتحري في شكاوى السودانيين من الضرائب الباهظة وغير المعقولة، وكان سلوك سلاطين في ذلك الوقت يضج بالحيوية والعزيمة رغم صغر سنّه (حوالي 22 عاماً). وتجدر الإشارة إلى أنّه استقال من هذه الوظيفة لأسباب يذكرها بنفسه في الكتاب. و كانت فرصة لتدوين جرائم عبدالله ود تورشين ضد أهالي السودان النهريين، والتي تمّ إخفاؤها عن عمد لصالح سرديات وطنية مزيفة تشوه التاريخ الحقيقي.

توالت الأحداث سريعاً في حياة سلاطين، ففي فترةٍ لاحقة عينّه غردون باشا مديراً لدارفور، حيث كانت تُعتبر تلك المناطق الجنوبية الغربية جزءاً من إدارة دارفور، وقد نالت هذه المهمة أهمية خاصة في مسيرته المهنية بعد أن كان قد زار السودان قبلها بأربع سنوات؛ ففي عام 1874م، وصل إلى الخرطوم وتوجه لزيارة جبال النوبة، ومكث فترة في الدلنج داخل الإرسالية التبشيرية التابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية النمساوية. وقد وفر هذا التجوال له فرصة التعرف على أطياف متنوعة من الناس والبيئات الثقافية والإدارية في السودان.

على صعيد آخر، لم تسر الأمور دائماً وفقاً لتوقعاته؛ إذ اضطرّ سلاطين بسبب صدفة تاريخية إلى مواجهة واقع آخر، فقد وقع في الأسر بمدينة الدراويش (جنود المهدية) بعد استسلامه لهم في العام 1882م، وظل أسيرهم حتى تمكن من الهروب في العام 1895م. وبعد تلك الأحداث الدراماتيكية، عاد سلاطين لتجسيد دوره التاريخي مرفقاً بجيش الجنرال كتشنر، الذي أعاد احتلال السودان عام 1898م، واستمر في خدمة الحكم الثنائي البريطاني/المصري حتى العام 1914م.

جرائم عبدالله ود تورشين في ذكر ما أخفته الروايات الرسمية

يُعدّ كتاب سلاطين بعنوان Sword & Fire in Sudan، والذي تُرجمت تسميات عديدة إحداها “السيف والنار في السودان” على نطاق واسع، مرجعاً مهماً لتوثيق حياةٍ خفية لم يُرغب في كشفها من قبل؛ فبجانب تفاصيل فترة عمله في السودان وسرية المواقف التي عاشها والمواقف التي تكشف عن جرائم عبدالله ود تورشين، يُبرز الكتاب حقيقة لم تُذكر في الروايات الرسمية. يشير سلاطين إلى أنّ تلك الجرائم والفظاعات التي ارتكبها عبدالله ود تورشين وقبائله و حواضنهم الاجتماعية وأفعالهم مع باقي الناس والقبائل في السودان النهري، خاصة في شمال السودان الكبير، تم التغاضي عنها عمدًا من قبل عدد من المؤرخين السودانيين.

يُستشعر في السرد التاريخي توجّهاً ذا أبعاد قومية ومصالح سياسية واضحة، حيث سعى بعض هؤلاء المؤرخين إلى ترسيخ سردية الدولة الوطنية الأولى في السودان الحديث، أو كما يُنظر للحركة المهدية كثورة سودانية خالصة استطاعت بكفاءة أن تهزم الإنجليز وتطيح بباب السير غردون آنذاك. ويرى البعض أن هذا التوجه كان يهدف إلى صناعة الأمة عبر بناء التاريخ بالشكل الذي يليق برؤية معينة، حتى وإن تضمن ذلك التغاضي عن مظاهر من العنف والتعذيب و الجرائم التي مارسها عبدالله ود نورشين ضد الجماعات النهرية. وفي المقابل، كان ما عاناه الشماليون من بطش عبدالله ود تورشين وما صاحبه من استغلال للسلطة دافعاً قوياً في ترحيبهم بقوة السلاح وبأسلوب البطش الذي قل مثيله في التاريخ المعاصر، حتى وإن تم ذلك على يد الإنجليز.

كما تظهر تفاصيل أخرى في هذا السياق، بأن الحركة المهدية نفسها، وإن ما اعتبرته بعض الروايات ثورةً وطنية، كانت بطريقة ما استعماراً داخلياً للسودان القديم قبل ضم دارفور—حيث أسقطت الخرطوم عام 1885 بقواتها المستمدة أساساً من دارفور، في حين أن ضم دارفور إلى السودان لم يكن دائماً ثابتاً؛ فقد تم ضمها في نحو العام 1874 على يد الزبير باشا لصالح الخلافة التركية لفترة محدودة تصادف ظهور الحركة المهدية وبعدها سُطرت الأحداث والمعارك التي نالت شهرةً كبيرة.

وتظل المرويات الشفوية ضمن الجماعات التي ينتمي إليها مؤيدو أو من تضرروا من أحداث تلك الحقبة مليئةً بالقصص والحكايات التي أخفاها أبناؤهم أو تغاضى عنها البعض عن ذكرها. وتُظهر هذه الحقبة التاريخية تعقيداتٍ ومفارقاتٍ، إذ تُركز الروايات الرسمية على سردية أبطالا قوميين وصناعة وهم دولة وطنية، في حين تُخفي الحقائق المريرة التي تتعلق بمآسي الشعوب النهرية. وهكذا، يبدو التاريخ كسلسلةٍ من الأحداث المتشابكة بين النور والظل، بين البسالة والتعسف، تاركاً إيانا لنستخلص من خلال هذه الروايات المتناقضة معانيًا تتعلق بصناعة الأمة والحقيقة التاريخية التي ينبغي أن تُروى بكل تفاصيلها.

أقرا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى