حين كتب الشاعر أمل دنقل قصيدته “لا تصالح” عام 1976، لم يكن يكتب لحقبة بعينها، بل كان يُؤسس لوعيٍ مقاوم لا يتهاوى أمام وهم المصالح، ولا ينهار تحت ضغط الخوف أو الإغراء.
واليوم، بعد مرور عقود على تلك القصيدة، نجد أنفسنا في السودان أمام واقع أكثر قسوة. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تشهد البلاد حرباً دامية ، لكنها في جوهرها حرب استهداف مباشر لأبناء “النهرين” – مجتمعات وسط وشرق وشمال السودان التي تسكن ضفاف النيل وتحمل إرث الحضارة السودانية.
حرب تُعيد فيها الأحداث صياغة معاني القصيدة وكأنها كُتبت لأجلنا، نحن أبناء المجتمعات النهرية الذين وجدوا أنفسهم مستهدفين لا لذنب اقترفوه، بل لأنهم يحملون هوية وموروثاً حضارياً يُراد محوه.
لا تصالح… لأن ما فُعل بنا ليس خلافاً سياسياً
العدوان الذي شنته مليشيات “قوات الدعم السريع” — المنحدرين من قبائل العطاوة الرزيقات، والمسيرية، ومكونات دارفور المليشياوية — لم يكن حرباً أهلية بالمعنى الكلاسيكي، بل كان غزواً داخلياً منظّماً.
الهدف واضح ومحدد: استهداف أبناء “النهرين” – مجتمعات النهر والبحر التي بنت الدولة السودانية الحديثة، وشكّلت وعيها، وحملت إرثها الحضاري عبر القرون.
لقد جاؤوا إلى مدن النهر والبحر – لا لمحاربة جيش أو إسقاط نظام، بل لنهب منازل المدنيين، لاغتصاب النساء، لحرق المستشفيات، و لإذلال وتهجير النهرين الذين يحملون الذاكرة الحضارية والثقافية للسودان.
هذا صراع على السلطة. هذه حرب هوية وموارد: محاولة منهجية لكسر هيمنة النهرين على مراكز القرار والثروة في ارضهم و مواردهم، واستبدالها بسيطرة مليشياوية قبلية من دارفور.
الذهب لا يعيد كرامتنا.. ولا يغسل دماءنا
قال دنقل: “لا تصالح، ولو منحوك الذهب”.
فماذا عنّا؟
هل تعويضات المال تُعيد أمًّا قُتلت أمام عيني طفلها؟ هل التصالح يعيد الطفولة لمن شُردوا من منازلهم وشاهدوا الرعب بأعينهم الصغيرة؟
هل ننسى الخراب الأخلاقي الذي زرعته المليشيات في نفوس الناس، مقابل صفقة سلام تُقسّم المناصب وتُضفي الشرعية على الجريمة؟
المال لا يغسل الدم. والمناصب لا تعيد الكرامة المسلوبة.
لا تتساوى الرؤوس.. ولا الأيدي التي اغتالت بالأيدي التي دافعت
اليوم تُرفع شعارات التسوية والمصالحة، وكأننا متساوون في الذنب!
لكن أمل دنقل سألنا بصدق: “أكلُّ الرؤوس سواء؟ أقلبُ الغريب كقلبِ أخيك؟ أعيناهُ عينا أخيك؟”
لا. ليسوا سواء.
نحن النهرين – لم نحمل السلاح إلا دفاعاً عن بيوتنا وأطفالنا. لم نغزِ أراضي أحد، بل دافعنا عن مدن النهر والبحر، عن حضارتنا، عن موروثنا الذي بُني عبر آلاف السنين.
نحن لم نبدأ هذه الحرب، لكننا ندافع عن حقنا في الوجود.
فلا تساوونا بمن سفك دماءنا، ونهب مدننا، وعاث فساداً في إنسانيتنا.
المجرم ليس كالضحية. والمعتدي ليس كالمدافع.
لا تصالح.. لأننا لا نملك أن نغفر نيابةً عن الضحايا
يريدون أن نصمت، وأن ننسى. لكننا لا نملك هذا الحق.
الدماء التي سقطت في مدن النهر والبحر وقراها ليست ماءً يُغسل. الأرواح التي زُهقت من النهرين ليست أرقاماً في تقرير. الكرامات التي دُنست في قلب الحضارة السودانية ليست ذكريات تُمحى بقرار سياسي.
الوعي النهري الذي تشكّل عبر أجيال، لا يُمحى ببندقية ولا بخطاب مصالحة.
لا تصالح، ولو قيل “حقن للدماء”. لا تصالح، لأنك إن غفرت لهم اليوم، فستُدان غداً أمام الضمير والتاريخ.
لا تصالح.. لأن المعركة ليست معركة أرض فقط، بل معركة وعي وهوية
نحن لا نطلب الانتقام، بل العدالة. ولا نرفض السلام، بل نرفض الاستسلام.
سلام بلا اعتراف بالجريمة، بلا مساءلة، بلا محاسبة — هو تزويرٌ لتاريخنا واغتيالٌ لوعينا.
هو خيانة للأطفال الذين فقدوا أمهاتهم، وللنساء اللواتي تعرضن للعنف، وللرجال الذين ماتوا دفاعاً عن كرامتهم.
الكلمة الأخيرة: ماذا نفعل الآن؟
لا تصالح… لأنك لست وحدك، ولأن من ماتوا لن يعودوا، ولأن من تبقى لا يزال يحمل الذاكرة والسلاح والكلمة.
فماذا نفعل؟
- احفظوا الذاكرة: وثقوا الجرائم، اكتبوا الشهادات، احتفظوا بالأدلة
- انشروا الوعي: لا تدعوا العالم ينسى ما حدث لنا
- ادعموا الضحايا: الناجون يحتاجون لصوتكم ومساندتكم
- قاوموا بالكلمة: اكتبوا، تكلموا، لا تصمتوا
أمل دنقل مات، لكن كلماته لا تزال حية. ونحن أحياء، وكلماتنا يجب أن تبقى شاهدة على عصرنا.
لا تصالح… لأن الصمت خيانة، والنسيان جريمة.
“لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى”
أمل دنقل