منذ اندلاع الصراع المسلّح الأخير في السودان، بدا واضحاً أنّ الحكومة اختارت التراجع خطوة إلى الخلف في ملف الإعلام العسكري، تاركةً مساحة شاسعة لمغنّين ومؤثّرين وناشطين وصحافيين شبه مستقلّين كي يتولّوا مهمة «سرد» أخبار الحرب. هذه الظاهرة ليست مجرّد خيار بريء؛ بل انعكاس لأزمة بنيويّة في فهم الدولة لأهمية الإعلام الحربي ودوره في ضمان الأمن القومي. في السطور الآتية نعرض جملة من المآخذ التي تجعل هذا النهج مكلفاً على الصعيدَيْن الأمني والوطني معاً.
أولاً: ضياع الصوت الرسمي وتآكل المصداقية
- تشتّت الرسائل
– عندما تتعدد المنابر غير المنسَّقة، تتضارب الأرقام حول الخسائر والإنجازات، فيفقد الجمهور البوصلة. - الإحساس بعدم الجديّة
– بثّ أغنية حماسية أو فيديو راقص من خط النار قد يثير إعجاب المتابعين دقائق معدودة، لكنه يقتل هيبة المؤسسة العسكرية على المدى الطويل. - فجوة الثقة
– المواطن الذي لا يجد خطاباً رسمياً متماسكاً سيلجأ إلى مصادر خارجية (إقليمية أو دولية)، ما يضع الحكومة تحت رحمة روايات موجهة ضدها.
ثانياً: مخاطر أمنية فادحة
- تسريب معلومات حساسة
– صورة «سيلفي» لأحد المؤثرين بجوار آلية عسكرية تكشف نوع السلاح وموقعه؛ كفيلة بإعادة تموضع العدو خلال ساعات. - تشويش على العمليات
– السعي المستمر إلى «المحتوى المثير» يجبر الوحدات الميدانية على ترتيب مشاهد استعراضية، ما يشكّل عبئاً لوجستياً ويؤخّر القرارات الحيوية. - فرصة للخصم في الحرب السيبرانية
– البيانات المفتوحة التي ينشرها ناشط غير مدرَّب تتيح للعدو بناء قواعد بيانات دقيقة عن تحركات القوات والأنظمة الدفاعية.
ثالثاً: تطبيع الابتذال وتفريغ الصراع من معناه
- تسفيه المعاناة
– تحويل الحرب إلى «ترند» يساهم في تبلّد الشعور تجاه آلام المدنيين والنازحين. - صعود البطولة الفردية الزائفة
– التركيز على «نجومية» شخص واحد يقلل من قيمة العمل المؤسسي ويخلق حالة تناحر بين الوحدات بحثاً عن الأضواء. - تهميش الخطاب القيمي
– الإعلام الترفيهي غالباً ما يتجاهل البُعد الإنساني والأخلاقي للمعركة، وينزلق إلى خطاب شعبوي يفتقد الرصانة.
رابعاً: تداعيات على وحدة الصف الوطني
- الاستقطاب الداخلي
– محتوى الناشطين ينحاز لفصيل دون آخر داخل المؤسسة أو المجتمع، ما يعمّق الانقسامات القبلية والسياسية. - شرعنة الإشاعة
– جمهور واسع يشارك أخباراً غير موثّقة لأنها وردت من «مؤثّر محبوب»، فيتضاعف أثر الأكاذيب. - ضعف القدرة على الحشد الدولي
– الجهات الأجنبية لا تجد «متحدثاً رسمياً» موثوقاً، فتتردّد في إدانة المعتدي أو دعم الرواية السودانية.
خامساً: صراع الجنرالات وتفتيت الفضاء الإعلامي
- «شِلَل» رقمية لكل جنرال
– تحوّل كل قائد عسكري إلى مركز قوة إعلامي مستقل؛ يجنّد مغنّين وناشطين وصحفيين موالين يروّجون لروايته الخاصة ويطمسون رواية الخصم. - سباق التفاهة واللغة المنحطة
– التنافس بين هذه الشلَل يرفع سقف الاستفزاز والسخرية والانحدار اللفظي، فيغيب أي وعي بحقيقة بشاعة الحرب ويحلّ مكانه «استديو مشاحنات» مفتوح. - طمس صورة المعركة الحقيقية
– التركيز على المهاترات والردح الإعلامي يصرف الأنظار عن الجرائم الإنسانية وحجم الدمار، ويؤخر أيّ جهد جاد لإنهاء القتال أو إغاثة المدنيين. - تعقيد أي تسوية سياسية
– عندما يصبح لكل جنرال ماكينة بروباغندا شعبوية، تتقلص فرص قبول الجمهور بأي حل وسط، لأن الماكينات تعيش على توتير الأجواء وكسب التفاعل.
سادساً: قراءة في دوافع الحكومة السودانية
- الكلفة المنخفضة
– الاستعانة بمؤثرين أقل تكلفة من بناء جهاز إعلامي احترافي. - محاولة استهداف الشباب
– ظنّ خاطئ بأن الجيل الجديد لا يستجيب إلا للمحتوى الخفيف السريع. - الهروب من المساءلة
– وجود وسطاء غير رسميين يتيح للحكومة والجنرالات الإنكار عند تسرّب معلومة كارثية أو وقوع خطأ دعائي.
سابعاً: توصيات لإصلاح المسار
- إعادة تفعيل «المتحدث العسكري» بسلطة معنوية حقيقية وإيقاع نشر سريع.
- منع ازدواجية المنابر: إخضاع كل منصّة تتحدث باسم أي جناح عسكري لمرجعية إعلامية موحَّدة تراقب المحتوى قبل نشره.
- إطلاق برنامج اعتماد للناشطين الراغبين بالتغطية: تدريب على أمن المعلومات وأخلاقيات الحرب مقابل وصول محدود للجبهات.
- إنتاج محتوى احترافي (وثائقيات، خرائط تفاعلية، موجزات صباحية ومسائية) يحترم ذكاء الجمهور.
- إنشاء وحدة رصد تُصحّح الشائعات خلال دقائق، مع توفير رقم مرجعي رسمي لكل خبر.
- إفساح هامش شفافية مدروس: الاعتراف بالأخطاء والضحايا العسكريين والمدنيين يمنح الخطاب الرسمي مصداقية ويقطع الطريق على الحملات المعادية.
- تشجيع خطاب يركّز على إنسانية الصراع لا على بطولات كرتونية؛ وإبقاء الفن حاضراً بروحٍ تُعلي القيم وتحترم الألم.
خاتمة
إن ترك الحبل على قاربه لمؤثّرين ومغنّين غير مختصّين ليمسكوا بمقاليد الإعلام العسكري لا يمكن اعتباره ظاهرة عابرة أو مجرّد «تطوير» للأساليب الاتصالية. هو بالأحرى انزلاق خطير يهدد أمن العمليات، وتماسك الجبهة الداخلية، وسمعة السودان في الخارج. ومع دخول الجنرالات سباق النفوذ الإعلامي عبر «شلل» رقمية، تفاقمت التفاهة وصار الخطاب مجالاً لتصفية الحسابات لا لعرض الحقيقة. على الحكومة أن تدرك أنّ الحرب ليست عرضاً مسرحياً، وأن الصوت الرسمي—بكل ما يتطلبه من دقّة ووقار—هو سلاح لا يقل أهمية عن البندقية. الاختبار الحقيقي لقدرة الدولة على حماية شعبها يبدأ من قدرتها على حماية الحقيقة.