سؤال الخيانة والتواطؤ: تشريح منهجي لما يحدث
عندما نواجه الكوارث المتتالية التي حلت بالنهريين، يبرز سؤال محوري يستحق التفكير العميق: هل ما نشهده مجرد خيانة فردية من بعض الجنرالات الذين فشلوا في حماية مواطنيهم، أم أننا أمام منظومة تواطؤ متكاملة تديرها النخبة الحاكمة بكافة مكوناتها؟
لنتأمل المعطيات ونحللها: إذا كان الأمر مجرد خيانة عسكرية، فلماذا تتكامل أدوار المؤسسات المختلفة – العسكرية والمدنية والإعلامية – في تنفيذ سياسات تستهدف النهريين تحديداً؟ وهل يمكن للجنرالات وحدهم، دون غطاء سياسي ودعم مؤسسي، أن ينفذوا مخططاً بهذا الحجم؟
كيف نفسر التناغم المريب بين القرارات العسكرية التي سمحت بتدمير المناطق النهرية، والسياسات الاقتصادية التي أفقرت أهلها، والخطاب الإعلامي الذي يتجاهل معاناتهم، والسياسات الثقافية التي تطمس هويتهم؟ أليس هذا التناغم دليلاً على وجود استراتيجية متكاملة تتجاوز فكرة “الخيانة الفردية” إلى “التواطؤ المؤسسي”؟
تدمير الاقتصاد النهري: قرارات عسكرية أم سياسات ممنهجة؟
لنسأل أنفسنا بجدية: هل يمكن تفسير ما حدث للخرطوم – مركز القوة الاقتصادية النهرية – بمجرد فشل عسكري؟ أم أن هناك قراراً استراتيجياً بالسماح بتدميرها والتخلي عنها؟
فكروا معي: كيف يمكن لمدينة بحجم الخرطوم أن تُترك للقوات غير نظامية تعيث فيها فساداً دون تدخل حقيقي من الجيش النظامي؟ ولماذا تركزت الهجمات على المناطق الاقتصادية التي بناها النهرين بالتحديد، بينما نجت مناطق أخرى من الدمار الشامل؟هل سألنا أنفسنا: من المستفيد من تدمير الثقل الاقتصادي للنهريين؟ ومن المستفيد من إضعاف شوكتهم وسلب مواردهم؟ هل هم مجرد جنرالات فاشلون أم نخبة متكاملة تخطط لإعادة توزيع الثروة والنفوذ في البلاد؟
التكتم على المجازر: تقصير إداري أم سياسة دولة؟
التحليل المنطقي للتكتم الرسمي على مجازر النهريين يضعنا أمام معضلة كبرى: هل يمكن أن يحدث هذا التعتيم الممنهج بدون قرار سياسي من أعلى مستويات الدولة؟لنفكر بعمق: عندما تُقتل آلاف من مواطني دولة ما، ألا تتحرك عادةً كافة مؤسسات الدولة للتحقيق والإحصاء والتعويض؟ فلماذا يغيب هذا التحرك تماماً في حالة ضحايا النهرين؟السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا لم تتحرك المنظمات الدولية والحقوقية لتوثيق هذه الجرائم؟ ألا يوحي هذا بوجود تواطؤ يتجاوز الحدود الوطنية؟ ومن له القدرة على تحييد هذه المنظمات سوى نخبة سياسية ذات نفوذ دولي؟
فساد الحركات المسلحة: انفلات أمني أم توظيف سياسي؟
عندما نرى الإنفاق الهائل على حركات مسلحة من دارفور تعمل خارج إطار المؤسسة العسكرية الرسمية، فإن السؤال المنطقي: هل هذا مجرد فساد عسكري أم استراتيجية سياسية متكاملة؟
فكروا بمنطق الدولة: كيف يسمح نظام سياسي بوجود قوات مسلحة موازية تستنزف موارد الدولة ثم تستخدم هذه الموارد في استهداف مكون أساسي من مكونات المجتمع؟ أليس هذا دليلاً على وجود قرار سياسي بتمكين هذه القوات واستخدامها كأداة ضد النهرين؟
والسؤال الأهم: من يتخذ قرار تخصيص الموارد وتوجيهها؟ أليس هذا قراراً سياسياً بالدرجة الأولى، يتجاوز القيادات العسكرية إلى صناع القرار السياسي؟
صناعة الواقع المزيف: خطأ إعلامي أم استراتيجية حكم؟
تأملوا معي سؤالاً جوهرياً: عندما يركز الإعلام الرسمي على الفعاليات الترفيهية والمهرجانات بينما البلاد تعاني من حرب أهلية ومجاعة، هل هذا مجرد سوء تقدير إعلامي أم سياسة متعمدة لصرف الانتباه وتخدير الوعي؟
من يملك القدرة على توجيه الإعلام الرسمي بهذه الطريقة المنهجية؟ ومن المستفيد من استمرار الناس في حالة من الجهل والتغييب؟ أليست هذه علامات واضحة على وجود استراتيجية متكاملة للتحكم في الوعي العام وتوجيهه وفق ما يخدم مصالح النخبة الحاكمة؟
تلميع الفاشلين وشراء الذمم: فساد فردي أم نسق حكم؟
الظاهرة الأخطر التي تستحق التحليل: عندما نرى منظومة متكاملة لترفيع سياسيين فاسدين، وتلميع صورتهم عبر إعلاميين مأجورين، هل يمكن أن يحدث هذا بدون قرار من أعلى مستويات السلطة؟
من يملك أدوات تربية طبقة سياسية موالية عبر الرشاوى والامتيازات؟ ومن يملك القدرة على تحويل الأموال العامة إلى أدوات لشراء الولاءات؟ أليست هذه دلائل واضحة على أن ما نواجهه ليس مجرد خيانة عسكرية عابرة، بل نظام حكم متكامل قائم على استراتيجية واضحة لتمكين فئة على حساب أخرى؟
الاستنتاج المنطقي: خيانة أم تواطؤ منهجي؟
عندما نجمع كافة العناصر السابقة ونحللها بموضوعية وعمق، نصل إلى استنتاج منطقي واضح: ما يحدث للنهرين يتجاوز بكثير فكرة خيانة الجنرالات المنفردة، ليصل إلى مستوى “التواطؤ المنهجي” من نخبة حاكمة متكاملة تضم مكونات عسكرية وسياسية وإعلامية واقتصادية، تعمل وفق استراتيجية واضحة لإضعاف النهرين وسلب مواردهم وطمس هويتهم.
فهل ندرك خطورة ما نواجهه؟ وهل نعي أننا لسنا أمام أخطاء فردية يمكن تصحيحها، بل أمام استراتيجية متكاملة تستهدف وجودنا ذاته؟ وإذا كان هذا هو واقعنا، أليس من حقنا – بل من واجبنا – أن نعيد التفكير في علاقتنا بهذه المنظومة، وأن نسعى لبناء مستقبل يليق بتاريخنا وكرامتنا، حتى لو تطلب ذلك إعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي بشكل جذري؟
هذه أسئلة مصيرية تستحق تفكيراً عميقاً وحواراً صريحاً بين كافة النهرين، لأن إجاباتها ستحدد مسار الأجيال القادمة ومستقبل الحضارة النهرية بأكملها