لا تنشأ دكتاتورية الجنرالات في فراغ؛ فهي غالباً نتيجة خلل بنيوي في منظومة القوى المدنية التي تضم النخب الاقتصادية والمثقفين والسياسيين. كلما ضعفت هذه المنظومة أو تشرذمت، زادت قدرة المؤسسة العسكرية على ملء الفراغ السياسي وفرض الهيمنة. في هذا المقال، نستعرض أبرز الآليات التي تربط ضعف النخب بسيطرة الجنرالات، مع استعراض لبعض الأمثلة والشروط اللازمة لكبح هذه الظاهرة.
كيف يساهم ضعف النخب في صعود دكتاتورية الجنرالات؟
1. فراغ الشرعية والتمثيل
عندما تضعف الأحزاب أو تغيب، تبقى الكتل الاجتماعية بلا صوت مؤسسي، ما يسمح للجيش بادعاء تمثيل “الأمة” وتوظيف سردية ضبط الفوضى. كذلك، تميل النخبة الاقتصادية لمسايرة العسكر لحماية امتيازاتها، فتتخلي عن دورها كضامن لموازين القوى.
2. هشاشة البنية الفكرية والنقدية
المثقفون غالباً ما ينقسمون بين أيديولوجيات متصارعة (قومية، يسار، إسلام سياسي)، مما يشتت جهودهم في خلق رأي عام رافض للحكم العسكري. كما أن غياب منصات النشر الحرة يضعف الخطاب النقدي ويفرغه من أدواته، ما يكرس خطاب “ليس في الإمكان أبدع مما كان”.
3. تفكّك مؤسسي – متلازمة “الدولة الهشّة”
أجهزة القضاء والبرلمان والإدارة العامة تفقد استقلالها وتضعف مواردها، ما يعجزها عن مراقبة الإنفاق والتعيينات العسكرية. حين تنهار السُلَم المهنية داخل الدولة، يصبح الجيش المؤسسة الأكثر تنظيماً وتمويلاً، ما يعزز قدرته على الحكم المباشر.
4. الاقتصاد السياسي للتحالفات
بمنح الامتيازات التجارية لشرائح من رجال الأعمال والإعلاميين، يحشد الجنرالات دعم هذه الشرائح عبر خطاب “استقرار مقابل تنمية“. كما أن الطبقات الوسطى، التي تخشى خسارة مدخراتها في فوضى التغيير، تميل إلى دعم “المستبد المُخلِّص”.
5. إستراتيجيات العسكر لاختراق النخبة
الجنرالات يستخدمون عدة وسائل لاختراق النخب، مثل دعم الانقسامات الحزبية عبر المال والإعلام، واحتواء الأكاديميين والمثقفين في مجالس استشارية لمنح “واجهة مدنية”، وتشويه الخصوم عبر وصفهم بـ”الخونة” أو “العملاء”.
أقرا عن تحالف الفساد
حلقات التغذية الراجعة
ضعف النخب السياسية والمثقفين: الأحزاب المفككة، المعارضة المنقسمة، والمثقفون المشتتون يخلقون فراغاً في المشهد السياسي.
توسع نفوذ الجنرالات: يستغل العسكر هذا الضعف ليبسط سيطرته على مفاصل الدولة، بدءاً من المؤسسات السيادية وصولاً للإدارة المحلية.
فرض قيود على الحريات: تقييد الإعلام، منع التجمعات، ملاحقة المعارضين، ومحاصرة منصات التعبير المستقلة.
تآكل الحياة الفكرية والحزبية: تضعف الأحزاب وتتقلص مساحات النقاش العام، وتتراجع المشاركة السياسية للمواطنين.
تعميق الدكتاتورية وتوسيع النفوذ الاقتصادي: تتحول المؤسسة العسكرية لقوة اقتصادية مهيمنة مع تغلغلها في القطاعات الإنتاجية والخدمية.
هجرة الكفاءات وإضعاف إضافي للنخب: تغادر الكفاءات والكوادر المؤهلة البلاد بحثاً عن فرص وحريات، مما يزيد إضعاف قوى التغيير.
نقطة العودة إلى البداية: مع هجرة الكفاءات وإضعاف النخب بشكل إضافي، تكتمل الدائرة وتعود إلى نقطة البداية، لكن مع نخب أضعف وجنرالات أقوى في كل دورة جديدة.
أمثلة مقارنة
- السودان: تفكك الأحزاب التاريخية والصراعات الأيديولوجية أتاح للمجلس العسكري إحباط الانتقال الديمقراطي مراراً.
- مصر: ترويض رجال الأعمال والإعلام ضمن “جمهورية الضباط” مع غياب بنية حزبية حقيقية.
- باكستان: انقسامات النخبة المدنية واستخدام القضاء والإعلام لتبرير تدخلات الجيش المتكررة.
- أمريكا اللاتينية في السبعينيات: الانقلابات ازدهرت حين انهارت الثقة بالأحزاب التقليدية وصعدت أزمات اقتصادية خانقة.
المخرجات السلبية طويلة المدى
- عسكرة الاقتصاد واحتكار الشركات العسكرية.
- نزيف الكفاءات البشرية بسبب القمع والتضييق.
- إعادة إنتاج الضعف المدني وتخييم الخطاب الذي يمجد “منقذ العسكر”.
شروط فك الارتباط وكبح الدكتاتورية
- بناء جبهة مدنية عابرة للأيديولوجيا حول أجندة ديمقراطية.
- إصلاح إعلامي يضمن استقلالية المنصات واستدامة التمويل.
- تحصين القضاء والأجهزة الرقابية بتعديلات دستورية تمنع محاكمة المدنيين عسكرياً.
- إعادة هيكلة الاقتصاد لإزاحة امتيازات الشركات العسكرية تدريجياً.
خاتمة
كل دكتاتورية عسكرية هي مرآة لخللٍ أعمق داخل المجتمع المدني. بدون مشروع متماسك وإرادة جماعية للنخب السياسية والفكرية، ستظل “بندقية الجنرال” حاضرة لاقتناص السلطة كلما لاح فراغ أو صدام. القوة الناعمة للنخبة هي السلاح الوحيد الفعّال لردع القوة الصلبة للمؤسسة العسكرية